IMLebanon

دكتاتورية الأقلية: المذهبية السياسية بدلاً من الطائفية السياسية

رغم ما تعنيه المادة 65 من الدستور من سعي حثيث لمنع طغيان الأكثرية أو الأقلية في أي موضوع «أساسي»، من خلال اللجوء الى الأكثرية الموصوفة، أي أكثرية الثلثين، فإن ما أظهره «حزب الله» في الجلسات الـ35 المنصرمة لانتخاب رئيس للجمهورية، وآخرها جلسة أمس، هو أنه نجح في تحريف مفهوم هذه «الأكثرية الموصوفة» التي وضعها المشترع من أجل الحضّ على التوافق بين أكثرية أعضاء البرلمان في مثل هذه الاستحقاقات «الأساسية»، عن طريق مواجهتها بمفهوم متداول في قانون التجارة والقانون العام هو «دكتاتورية الأقلية».

وإذا كان هذا المفهوم معمولاً به في بعض القوانين، فإنه يمثّل خروجاً «موصوفاً» عن الدستور والنظام، لأنه إذا كانت الديموقراطية المعتمدة في الأنظمة التوافقية مبنيّة على قاعدة عدم السماح بمبدأ «طغيان الأكثرية» على الأقلية، فهي بطبيعة الحال، أو من باب أول تمنع طغيان الأقلية على الأكثرية بحيث تتحوّل الى «دكتاتورية».

ذلك أن أكثرية النصف زائداً واحداً، على الطريقة اللبنانية، تعني بحكم المناصفة عدم إقرار أي قانون أو قرار يتّخذه المسيحيون منفردين أو المسلمون لوحدهم، وكذلك أكثرية الثلثين التي تفترض موافقة أو معارضة نواب من أكثر من طائفة، أما «دكتاتورية الأقلية» فتفتح الباب أمام تفرّد نواب ينتمون الى أحد المذاهب الكبرى بتعطيل أي قرار، أو انتخاب، بمجرد استعانتهم بمجموعة قليلة من نواب من مذاهب أو طوائف أخرى.

ومعنى ذلك أن المعطّلين يدفعون النظام اللبناني تدريجياً نحو ما يمكن تسميته «المذهبية السياسية» بدلاً من «الطائفية السياسية»، أي بمعنى آخر «المثالثة» بدلاً من «المناصفة« في حال تكرّس مبدأ تعطيل الانتخابات الرئاسية القائم حالياً على قاعدة «دكتاتورية الأقلية».

وإذا كان ذلك يعود الى التحوّل الذي طرأ على المشهد السياسي الإسلامي في لبنان بسبب بروز تصدّعات في داخله إثر دخول «حزب الله» في الحياة السياسية، حيث لم يعد ممكناً الحديث عن موقف واحد للغالبية الإسلامية، وقد ظهر ذلك بوضوح منذ وصول الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى السلطة، فإن تنامي التشنّج المذهبي منذ استشهاد الحريري وصولاً الى اندلاع الحرب السورية ساهم أكثر فأكثر في تفاقم هذا المنحى.

وهذا منحى خطير يسعى «حزب الله» الى تكريسه عملياً من دون حاجة الى تعديل الدستور، وإن بصورة مقنّعة باعتبار أن تعطيله الانتخابات الرئاسية معزّز بدعم أكبر كتلة مسيحية في البرلمان. وهذا المسار يعني أن ثمة محاولة من الحزب لإحداث فرز مذهبي مخالف لطبيعة المجتمع اللبناني والدستور، كما لمسار لبنان التاريخي بما يعيده الى ما قبل قبل الطائفية، أي الى كانتونات مذهبية مقنّعة.

وإذا كانت الطائفية السياسية، على علاّتها، أحدثت توازناً معيناً في نظام المشاركة في الحكم، فإن المذهبية السياسية تُخلّ بهذا التوازن وتُحدث توازنات من نوع جديد لم يألفها لا الدستور ولا المجتمع اللبناني.

فصحيح أن التركيب اللبناني عبارة عن مجموعة أقليات كما قال ميشال شيحا (كلنا أقليات)، وأن كثيرين من آباء الدستور اللبناني نظّروا للطائفية السياسية الى حدّ الترويج ضمناً أو علناً لـ»حق الفيتو» الطائفي، لكن أحداً لم يذهب الى حدود إتاحة هذا «الحقّ» للمذاهب أيضاً.

لذلك يخشى متعمّقون في الدستور وفي تجربة النظام اللبناني من انتقال الشرخ المذهبي السائد في لبنان من الشارع الى داخل المؤسسات، وإن بستار «وطني» أحياناً (متعدّد المذاهب والطوائف)، بحيث يصبح التنازع بين المذاهب بعد أن نظّم دستور 1926 ومن بعده دستور الطائف العلاقات بين الطوائف.

في أي حال، فإن السجالات الحادّة التي أعقبت تشكيلات وزارة المال وإحصاءات اعتمادات الطرق في وزارة الأشغال خلطت الحابل المذهبي بالنابل الطائفي، وأعادت الحساسيات الطائفية بعد أن حلّت مكانها الحساسيّات المذهبية، وكأن قدر اللبنانيين البقاء رهائن لحساسيات ما قبل «المواطنة»، تماماً كما صار الحال في الإقليم.

ولعلّ أول انعكاس مباشر لهذه الحساسيات على عمل المؤسسات الدستورية، مثل مجلسي النواب والوزراء، هو تبخّر ما يسمى «موالاة ومعارضة» كما هي حال كل الأنظمة الديموقراطية، ليحلّ مكان هذه المعادلة «انقسام» طائفي أحياناً، ومذهبي في غالب الأحيان، بات ينذر بشرّ مستطير.