خلافات الأطراف مهما تصاعدت حدَّتها، لا تزال محكومة بسقف التسوية السياسية
مصلحة الجميع المحافظة على التسوية والإخلال بها يُدخِل البلاد في المجهول
ما تزال مواقف الأطراف السياسية على اختلافها، إن كان في ما يخص الوضع الإقليمي المتغير وتعقيداته في ضوء الاشتباك العربي – الإيراني المتواصل، أو الدعوات التي تطلق من وقت لآخر لمعاودة احياء العلاقات اللبنانية الميتة مع النظام السوري، أو بالنسبة للقضايا والملفات الداخلية، كملف النازحين السوريين وقضايا الكهرباء والنفايات والتعيينات وغيرها، ما تزال محكومة بسقف التسوية السياسية التي حصلت قبل نحو عام وأدت إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وتأليف حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الرئيس سعد الحريري، بالرغم من النبرة العالية التي تواكب إطلاق هذه المواقف من وقت لآخر والاهتزازات السياسية المحصورة التي تحدثها، لأنه كما يبدو ان التفاهمات السياسية التي قامت عليها هذه التسوية مستمرة، ولا مصلحة لأي طرف كان الاخلال بها أو إسقاطها حتى الساعة مهما تصاعدت حدة الخلافات حول المسائل المطروحة.
ويلاحظ في هذا الخصوص عمق التباين الحاصل حول ملف النازحين السوريين والخلاف الحاد حول مقاربته بين الأطراف الموالية للنظام السوري من جهة والأطراف المعارضة للنظام من جهة أخرى، وما يحدثه هذا الخلاف من ضجيج سياسي واهتزازات تؤثر سلباً في إيجاد الحلول والمعالجات المطلوبة لهذا الملف الذي بات يؤرق مضاجع كل اللبنانيين. فالبعض يريد ان يوظف هذا الملف الخلافي في اتجاهين متوازين كما يريد بذلك وزير الخارجية جبران باسيل الذي حاول من خلال لقائه وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم في نيويورك مؤخرا باظهار انفتاحه وتواصله العلني لأول مرّة على هذا النحو منذ تولي عمه مهمات رئاسة الجمهورية مستغلاً مسألة ملف إعادة النازحين السويين إلى ديارهم ظاهرياً ولكنه يسعى ضمنياً إلى التأسيس لعلاقة سياسية مستقبلية وفي الوقت نفسه يستقطبه تأييد أكبر شريحة من الناخبين الرافضين لوجود النازحين السوريين في لبنان.
ولكن بالرغم من الضجيج والارتدادات السلبية التي احدثها هذا اللقاء الذي يتعارض في نظر الأطراف الرافضة له مع أسس التسوية المعقودة مع «التيار الوطني الحر» وسياسة النأي بالنفس التي ارتكزت عليها هذه التسوية لإبقاء لبنان بعيدا عن الأزمة السورية وتفاعلاتها، تمّ تطويقه ومنع تفاعله بمعزل عن الارتدادات السلبية التي تسبب بها في علاقات أطراف التسوية مع بعضهم البعض ولم يؤد إلى إسقاط التسوية بل الى اهتزازها في حدود معينة.
كذلك الأمر بالنسبة لذهاب بعض الوزراء المتحالفين مع النظام السوري بصورة افرادية وبمعزل عن موافقة مجلس الوزراء إلى دمشق «الوزيران غازي زعيتر وحسين الحاج حسن» تحت يافطة إعادة التواصل مع النظام السوري التي لم تتحقق الا من خلال هاتين الزيارتين اليتيمتين، وما تسببا به من ردود فعل سلبية من قبل الأطراف المعارضين لها، فقد بقيت تفاعلاتهما محدودة وتم استيعاب نتائجهما ولم تؤديا الى إسقاط التسوية السياسية القائمة.
وبعيداً عن محاولات الأطراف المؤيدة لمعاودة الانفتاح وتعويم النظام السوري من خلال ملف إعادة النازحين السوريين تارة، ومن خلال الملف الاقتصادي تارة أخرى، تظهر الخلافات العلنية من أطراف داخلية أخرى بخصوص مقاربة الملفات الداخلية، كملف الكهرباء والتعيينات وغيرها والتلويح بإمكانية الانسحاب من الحكومة كما صرّح بذلك مقربون من حزب «القوات اللبنانية» في الآونة الأخيرة، ما لم يؤخذ بمطالبهم وملاحظاتهم ووجهة نظرهم بهذا الخصوص.
وحتى الساعة تبدو الخلافات القائمة حول مختلف الملفات الإقليمية والمحلية مطوقة بالتسوية المعمول بها منذ أكثر من عام، ولكن يخشى ان يؤدي تفاعل الاشتباك السياسي العربي الإيراني وتصاعد حدة الإجراءات والعقوبات الأميركية ضد إيران و«حزب الله» إلى استغلال ملف من هذه الملفات الخلافية، كملف معاودة العلاقات اللبنانية مع النظام السوري والاصرار على السير به حتى النهاية من قبل الحزب وحلفائه بمعزل عن موافقة باقي أطراف التسوية إلى تأجيج الخلافات الداخلية القديمة الجديدة باتجاه إسقاط التسوية المعمول بها استناداً إلى فحوى بعض المواقف التي تصدر بهذا الخصوص من وقت لآخر عن مسؤولين ايرانيين وحلفائهم في «حزب الله» تحديداً في إطار معاودة استعمال الساحة اللبنانية لغايات ومصالح إيرانية بعيداً عن المصلحة اللبنانية العليا وإن كان يبدو مثل هذا التوجه مستبعداً حتى الساعة ولكنه ليس معدوماً.
ماذا يعني جنوح بعض الأطراف إلى استغلال أي ملف إقليمي أو داخلي «ملف عودة النازحين السوريين»، أو إعادة «التطبيع مع النظام السوري قبل أي تسوية سياسية بالداخل السوري»، في ظل رفض أطراف داخلية أخرى لمثل هذا التوجه؟
هذا معناه عدم الالتزام بأسس «التسوية السياسية» والانسحاب منها، الأمر الذي يؤدي إلى إعادة أجواء البلبلة السياسية والتشنج التي كانت قائمة قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وتأجيج حالة الانقسام السياسي من جديد، وهذا لن يكون في صالح أي طرف من الأطراف مهما كان شأنه، لأن الجميع مستفيد من أجواء التفاهم القائم بفعل التسوية السياسية المعمول بها ولا مصلحة باسقاطها لأنها ستؤدي إلى دخول البلاد بالمجهول وتصليح الانتخابات النيابية المقبلة.