لا محال، العالم سيتغير بعد وباء «كورونا» وهو بدأ يتغير فعلاً. والأهم انّ احداً لا يملك تصوراً واضحاً الى اين ستؤول الامور. فالجميع مربك وهو غير جاهز للتعامل مع هذا العدو الجديد. الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون كررها 6 مرات في خطابه الى الفرنسيين، قال «اننا في حالة حرب»، فيما الرئيس الاميركي دونالد ترامب مُربك حيال طريقة المواجهة بعدما أطاح الفيروس الغامض بالركائز الثابتة التي كان يعوّل عليها لتأمين فوزه في الانتخابات الرئاسية بعد نحو 7 أشهر. ففي نيويورك مثلاً هنالك من يتوقع أن تبلغ الاصابات ذروتها بعد 45 يوماً على أقل تقدير.
لذلك انطلقت ادارة ترامب في مشروعها للحصول على 850 مليار دولار من الكونغرس الاميركي لمواجهة التداعيات الاقتصادية لكورونا، بحيث تشمل هذه الموازنة خفض الضريبة على الرواتب و50 مليار دولار لمساعدة قطاع الطيران وإنقاذه. وفيما ظهرت على الاتحاد الاوروبي نقاط ضعف كثيرة في ظل غياب سياسة صحية أوروبية، اعاد فيروس كورونا اظهار الحدود الداخلية في اوروبا ولا سيما الحدود الفرنسية ـ الالمانية في اطار سعي كل بلد للحد من الانتشار السريع للفيروس.
اما في الولايات المتحدة الاميركية، والتي ضربت ما يشبه سياسة العزل وسط ترجيحات أن تطول المدة وأنّ ما بعد لن يكون ابداً كما ما قبل، فإنّ النقاش داخل ادارة ترامب هو بين ما اذا كان يجب تقديم المساعدة الاقتصادية من خلال إعانة العمال الذين فقدوا وظائفهم، او ان تذهب المساعدات الى الشركات تحت شكل قروض او تخفيضات ضرائبية. وطبعاً، فإنّ حسابات الانتخابات موجودة بقوة في كلا الطرفين. رسمياً اجتاز ترامب عتبة المندوبين لنيل ترشيح الحزب الجمهوري لولاية رئاسية ثانية، فيما يتجه بايدن للفوز بترشيح الحزب الديموقراطي.
لكنّ الازمة الاقتصادية قلبت الحسابات الانتخابية، وهي مرشحة لأن تبلغ ذروتها الصيف المقبل، اي قبل توجّه الناخبين الى صناديق الاقتراع.
لذلك وجّه 13 من اعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين رسالة الى ولي العهد السعودي تطالبه بعودة السعودية عن قرارها بزيادة انتاج النفط واغراق السوق. فشركات النفط الاميركية العملاقة تعاني خسائر هائلة وموجعة.
وثمة مشكلة جديدة ظهرت، وهي من الانعكاسات المباشرة لكورونا. لأنّ المرشحين المفترضين للانتخابات الاميركية ترامب وبايدن متقدمان في العمر. والسؤال ماذا سيحصل اذا اصيب احدهما بكورونا خلال حملاتهما الانتخابية، والتي تعرّضهما للاحتكاك المباشر مع كثير من البشر. ذلك أنّ احتمالات الموت عند الطاعنين في السن هي الاكبر. ولا شك في انّ فيروس كورونا نجح في نشر الفوضى في نظام عالمي كان يبدو لوهلة أولى انه مضبوط ومُتماسك. واوروبا التي تخشى رؤية مشهد جديد من اللاجئين السوريين، يتضاعف قلقها من استغلال التنظيمات الارهابية لمشهد الفوضى وتنفيذ عمليات تسلل لانتحاريين بهدف نشر مزيد من الفوضى.
امّا في واشنطن، فهنالك نقاش صاخب حول الورقة البديلة التي على ترامب استعمالها في حال احتراق الورقة الاقتصادية من الآن وحتى الصيف المقبل. لذلك عاد الاهتمام الى انتصار ما ميداني في الشرق الاوسط، او على الاقل تَجنّب تلقّي نكسة او صفعة اضافية من ايران.
وخلال الاسابيع الماضية تصاعَد التوتر بين واشنطن وطهران على الساحة العراقية، إنه مفعول كورونا ايضاً. داخل الادارة الاميركية وجهة نظر تقول انّ ايران ستصبح اكثر خطورة كونها ستندفع إقليمياً لتشتيت الانتباه عن أزمتها الداخلية بسبب كورونا. ويدعم الجيش الاميركي وجهة النظر هذه. وجاء كلام الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني بأنّ بلاده ردّت وستردّ على اغتيال قاسم سليماني، ليعزز أصحاب وجهة النظر هذه، في مقابل وجهة نظر أخرى تقول انّ الواقع الداخلي المرهق سيجعلها اقل قدرة لتنفيذ هجمات استهدافية ضد خصومها، ويضمّ هذا الفريق مجموعات ديبلوماسية رفيعة في وزارة الخارجية، والتي تعتبر ان ليس في تاريخ السلطة الاسلامية في ايران مغامرة خارجية واحدة جاءت تحت تأثير عامل الهروب من المشكلات الداخلية، بل انّ الحسابات كانت تقوم على أساس البحث عن نقاط ضعف خصمها واستغلالها.
هذا الفريق، وهو بمعظمه من المؤيدين للحزب الديموقراطي، يعتبر انّ الاحداث أثبتت انّ قرار ترامب بالخروج من الاتفاق النووي كان قراراً طائشاً، وانّ تصعيد الحرب الاقتصادية على ايران أشعَل أزمة لم تكن ضرورية او مفيدة، وانّ خامنئي سيستفيد من الفيض الكبير من المشاعر الوطنية التي خلّفها اغتيال قاسم سليماني.
في الواقع، إنّ الضربة التي استهدفت قاعدة التاجي العسكرية الاميركية قرب بغداد كانت دقيقة جداً رغم انّ مساحة القاعدة شاسعة. والأهم ما أظهرته التحقيقات أنّ التنفيذ حصل في التوقيت المناسب والمكان المثالي وبمساعدة طائرة مسيّرة على الأرجح.
هنالك إجماع اميركي على أنه لا يمكن التصدي والدفاع عن القواعد العسكرية من الصواريخ قصيرة المدى المفاجئة. لذلك ساد رأي بسحب 5 آلاف جندي وإعادة نشر المئات من قواعد صغيرة الى أخرى كبيرة. لكن ذلك سيشكّل نكسة سياسية لترامب. ذلك انّ الايحاء بوجود بداية انسحاب سيعطي ايران نصراً استراتيجياً كبيراً وفشلاً لسياسة ترامب. لكنّ الرد الانتقامي قد يدفع في اتجاه الانزلاق الى مواجهة عسكرية أكبر والى مضاعفة عزلة الحكومة العراقية. كل تلك الصورة تؤثر بشكل مباشر على الساحة اللبنانية. وقرأت أوساط اميركية إشارات ايجابية في قرار الافراج عن العميل عامر الفاخوري. صحيح انّ ترامب لن يستطيع استثمار ما حصل انتخابياً كما كان يأمل بسبب الاحداث الكبرى، الّا انه يؤشّر إيجاباً. فقرار إطلاق الفاخوري كان قراراً سياسياً على مستوى المسؤوليين الكبار في الدولة اللبنانية، وهنالك من يقرأ في خلفياته تفهّماً او عدم معارضة لدى القوى السياسية الاساسية، ولو انّ الافراج كان شيئاً والتبرير غير مقنع.
في الواقع إنّ الصورة في لبنان تزداد سواداً، فالاقتصاد يزداد كارثية، والطبقة الفقيرة تزداد أكثر فأكثر وهي تُشارف على تجاوز نسبة الخمسين في المئة. وهذا رقم مرعب. في الخارج الحكومات تتسابق لإنقاذ اقتصادها من خلال الاعفاءات الضريبية وضَخ السيولة، وفي لبنان فإنّ المطروح أساساً هو المزيد من الضرائب على الاقتصاد المتهالك لإنقاذ الخزينة التي أفرغها الفاسدون. والسؤال اليوم كيف يمكن تحقيق ذلك؟!
منذ يومين، همسَ مسؤول كبير في أذن ديبلوماسي غربي رفيع أنه اذا لم يكن هنالك من مساعدات خارجية فلا أمل يرجى منه، وطبعاً فإنّ هذه المساعدات في حاجة الى قرار سياسي ما يزال غير موجود حتى الآن، لا مساعدات خارجية ولا حتى زيارات متوقعة لوفود دولية، ما يعني انّ أقصى ما يمكن ان تفعله هذه الحكومة هو تقطيع الوقت بأقل الخسائر الممكنة. وقد يكون إطلاق العميل عامر الفاخوري خضعَ لهذا المنطق، مُضافاً إليه الرغبة في إعادة تبييض الصفحة مع واشنطن. لكن من البساطة، لا بل من السذاجة بمكان، اختصار كل المشكلة بهذه الخطورة.
فثمّة مشروع مطلوب تحقيقه، والفوضى العالمية أبطأت من زخمه، لا بل أضافت أثقالاً جديدة، وفتحت الابواب أمام مخاطر إقليمية لم تكن في الحسبان.