بعد أن هدأت الحركة الاحتجاجية الاجتماعية موقتاً، شهدت إيران في الأسابيع الماضية احتجاجات لقوى تنتمي إلى الحركة الصوفية ذات الانتماء الشيعي، أسفرت عن مقتل خمسة من رجال الشرطة واعتقال حوالى ثلاثمئة من المتظاهرين. لاقى الأمر استغراباً من تصرف السلطة الإيرانية مع حركة لا مشروع سياسياً لها، بل يتركز عملها على الدعوة إلى اعتبار أن كل الأديان تنضوي في جوهرها على نفس الحقيقة، وبأن الله هو الحقيقة الوحيدة فوق الوجود، وأن أي إنسان، رجلاً كان أو امرأة، يمكنه إن أخلص الجهد أن يتوصل إلى رابطة روحية مع الله.
سبق الاحتجاجات الصوفية إحراق السلطة لأحد مساجد الحركة في مدينة قم، إذ كان الصوفيون يمارسون شعائرهم الدينية. تبع هذا الإجراء اعتقال زعيمهم، وهو الأمر الذي فجر الاحتجاجات. على رغم عدم القيام بنشاطات سياسية، الا ان نظام ولاية الفقيه يمارس الضغط على هذه الحركة التي ينتسب إليها مئات الآلاف من الإيرانيين، ويجهر الملالي بالكره والحقد عليهم. يعود السبب في ذلك، إلى أن الحركة الصوفية ترفض نظام ولاية الفقيه، من منطلق ديني صرف.
قبل اندلاع هذه الاحتجاجات، شهدت إيران تمردا نسائيا على الحجاب كان محدود العدد. اعترضت نسوة على الزامية الحجاب، وهو نظام من القمع فرضه آيات الله على المجتمع الإيراني منذ 1979. خلعت بعض هذه النسوة الحجاب، وطالبن بلبسه اختياريا. اهتاج رجال الشرطة ضد هذا التصرف، فعمدوا إلى اعتقال هؤلاء النسوة، وأودعوهن السجن، ولا يزال مصيرهن غير معروف حتى الآن.
من الناحية السياسية، لا تمثل الحادثتان أي أخطار على النظام القائم، فهما محدودتان بالعدد والتأثير في المجتمع. لماذا تصرفت السلطات الإيرانية على نحو عدائي تجاه المحتجين؟ يكمن التفسير في نمط النظام القائم الذي ينتمي إلى الأنظمة الشمولية التي عرفها التاريخ الحديث، والتي تقوم دعائمها على الاستبداد المطلق، ومصادرة الحياة السياسية وتنميط الحياة الاجتماعية وفق قواعد صارمة بما يحرم المواطن الحد الأدنى من الحرية الشخصية، بل ويفرض على المواطن الحياة وفق الأيديولوجيا التي يكون وضعها. هذه الأنظمة تتعاطى مع كل خروج ولو نسبي عن النظام السياسي– الاجتماعي المفروض، بمثابة تهديد للمنظومة بمجملها. فالخروج البسيط عن القواعد سيتوسع ليصبح خروجا عاما. لذا لا تتهاون هذه الأنظمة في قمع كل احتجاج، بوصفه ضمانة الحفاظ على البنيان القائم. بهذا المعنى، وفي منطق النظام الإيراني، فإن التصدي للاحتجاجات البسيطة هو لمنع الوصول إلى احتجاجات أوسع.
ومن طبيعة هذه الأنظمة الشمولية اقتران الاستبداد في الداخل بالهرب إلى الخارج، وافتعال مشكلات في البلدان المجاورة والسعي إلى الهيمنة على بلدان أخرى، أو التدخل في شؤونها. في العقدين الأخيرين، وتحت وطأة الانسداد وتصاعد الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وعجز النظام عن وضع حلول لها، لجأ نظام ولاية الفقيه إلى مد أذرعه على أقطار عربية والتدخل في شؤونها والهيمنة على القرار السياسي في بعضها. ازداد هذا التدخل مع الاحتلال الأميركي للعراق وما تبعه من انفتاضات عربية، وجد فيها النظام فرصته الذهبية للهروب إلى الأمام من معضلاته الداخلية. في العراق، وبعد تدخله الواسع عسكرياً وسياسياً ونهب الثروات النفطية، يعلن النظام أنه لن يسمح لقوى ليبرالية في الوصول إلى البرلمان في الانتخابات المقبلة. وفي سورية، يعلن جهاراً أنه يريد ثمناً لدعمه النظام عبر استثمارات وامتيازات في البلاد.
امتهن النظام الإيراني، وعلى غرار الأنظمة العربية، استخدام القضية الفلسطينية شماعة يعلق عليها مشجب العداء لاسرائيل وتوعده باستعادة فلسطين بكاملها من النهر إلى البحر وإلغاء الكيان الصهيوني من أساسه. خلال السنوات الماضية تعرضت القوات الايرانية في سورية إلى ضربات إسرائيلية، طالت مواقع الحرس الثوري والميليشيات التابعة له. في كل مرة، كان جواب النظام الإيراني مشابها لأجوبة النظام البعثي، بأنه هو الذي يحدد زمان ومكان المعركة، مع التهديد بأن ايران ستمسح المدن الاسرائيلية عن الوجود. فترتفع صيحات التهليل والتكبير للوعود المنشودة. في الأسبوعين الأخيرين، تعرضت المواقع والقواعد الإيرانية في سورية إلى ضربات كبيرة، دمرت معظمها، وذلك بعد إسقاط الطائرة الحربية الإسرائيلية، والذي تنصلت منه إيران بعد أن أوحت بمسؤوليتها عن الإسقاط. كانت الفرصة مناسبة للنظام الإيراني للانقضاض على إسرائيل وإزالتها من الوجود كما كان يهدد ويتوعد في كل مناسبة.
اعتاد النظام الإيراني إطلاق الكلام الكبير والتهديدات العسكرية في كل مرة يحتاج فيها الملالي داخلياً إلى رص الصفوف حولهم، وإفهام الشعب الإيراني أنه يتصدى لدولة إسرائيل ولأميركا والإمبريالية. وعندما يشعر بأن كلامه له جواب عملي من القوى التي يهددها، سرعان ما يبتلع تصريحاته ويخرس.
ليس خافياً أن الشعوب العربية تتوق حقاً إلى تنفيذ الملالي لتهديداتهم بإزالة اسرائيل من الوجود، فمتى سيحقق هذا النظام أمنية هذه الشعوب؟