تراقب المراجع الديبلوماسية بدقّة متناهية عملية تشكيل الحكومة، وتسعى الى تجاوز «جدران الصمت» المحيطة بها، عبر قنوات تسمح لها برصد المواقف، توصلاً الى مراقبة «التوزيعة» الحكومية الجديدة، وما يمكن ان تتسبب به من إرباك، بعدما تعاظمت الأزمات في وجهها قبل ولادتها. وهو ما دفعها الى التحذير من بعض الخطوات المحتملة. وعليه ما هي المؤشرات والدلائل؟
لا يخفي بعض الديبلوماسيين الغربيين المعتمدين في لبنان، حجم المصاعب التي يلاقونها في مراقبة ورصد الخطوات الجارية من اجل تشكيل الحكومة الجديدة، خصوصاً لجهة طريقة توزيع الحقائب السيادية وتلك الخدماتية، والآلية المعتمدة في تسمية الوزراء وطريقة اختيارهم، ولمن تكون الكلمة الفصل، بمعزل عن حق كل من رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري في الاختيار. فهما من سيوقّعان مراسيم قبول استقالة حسان دياب وتكليف سعد الحريري مهمة تأليف الحكومة العتيدة، توصلاً الى مرسوم تشكيلها وتوزيع الاسماء على الحقائب.
فإلى الحركة المكوكية التي يقوم بها الحريري بين «بيت الوسط» وقصر بعبدا، وما يلفّها من غموض غير مسبوق، زرع كثيراً من الشكوك حول ما يجري في الكواليس، مخافة أن تؤدي المساعي المبذولة الى «طبخة حكومية» معقّدة ومشروطة سلفاً، لتحمل في داخلها بذور تفجيرها عند اول استحقاق كبير يمكن ان ينقسم حوله اللبنانيون. ولذلك، فقد توزعت اهتمامات الديبلوماسيين المعنيين بالوضع في لبنان، وتحديداً اولئك الذين تعهدوا المساعدة الفورية لدعم لبنان للخروج من ازمته، الى رصد مواقف الكتل النيابية والقوى السياسية من عملية تأليف الحكومة، وهو ما ادّى بأحدهم الى إجراء «جردة مقارنة» بين ما يجري اليوم وما رافق تشكيل حكومة «مواجهة التحدّيات» بعد تسمية الدكتور حسان دياب لها، وقبل وبعد تكليف السفير مصطفى اديب لتشكيل «حكومة المهمّة» الى حين اعتذاره، وصولاً الى اعادة تكليف الرئيس سعد الحريري لتشكيل «حكومة الإنقاذ».
ومرد هذه المقارنة التي قصدها الديبلوماسي المحنك، الوصول الى معادلة بسيطة تقول بعنوانها الأساسي: هل سنكون مضطرين الى التعاطي مع القوى اللبنانية المختلفة، قياساً على طوائفها ومذاهبها، بدلاً من التعاطي مع حكومة واحدة وموحّدة. مع الخشية من إمكان أن تتعرّض للخضات عند مقاربة اي ملف من الملفات الخلافية الكبرى، والتي لم ينجح اللبنانيون واهل الحكم تحديداً في طي اي منها منذ اربعة اعوام، وإن عولج بعضها بطريقة مؤقتة، فعلى زغل ومن خارج الأطر الدستورية.
وعند دخوله في التفاصيل، يضطر الديبلوماسي الى الكشف عن بعض الملاحظات الحساسة التي على المسؤولين، ولا سيما منهم رئيس الجمهورية ومعه الرئيس المكلّف، أخذها في الاعتبار. وما خلا تجاهلهما على ما يبدو لما قالت به الإنتفاضة، وما عبّرت عنه فئات لبنانية واسعة منذ ثورة 17 تشرين العام الماضي قبل نكبة بيروت وبعدها، فإنّ هناك ملاحظات اخرى لا يمكن اخفاؤها ومنها:
– مخاطر ابقاء القديم على قِدَمه في بعض الحقائب الاساسية والسيادية منها خصوصاً. فإن بقيت وزارتا المال والاشغال العامة في يد القوى التي طاولتها العقوبات الأميركية الأخيرة، في حق الوزيرين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، فإنّ ذلك يعني انّها تجاهلٌ لشكل ومضمون الرسائل التي عبّرت عنها العقوبات وامعاناً في ارتكاب مزيد منها. وان ارادوا تأكيداً لهذه النظرية يمكن ان تُعهد وزارة الاشغال الى «حزب الله» ايضاً، فتنتقل الحقيبتان الى طرف واحد، ما زال معرّضا لمزيد من العقوبات في اي وقت.
– انّ اعادة حقيبة وزارة الطاقة الى من تولّى شؤونها منذ عقد ونصف عقد، يعني في شكل واضح، انّه لن تكون هناك خطط لتجاوز الوضع المزري في القطاع على اكثر من مستوى. وهو ما يؤدي الى استمرار النزف في المالية العامة، والفشل في اقفال ملف انتاج الطاقة الكهربائية، وتأمين الحلول المستدامة قبل اعادة النظر في فوترة كلفتها وحلّ ازمة فاتورتي الكهرباء والماء وتجاوز العجز المالي المريب.
– إن نجح مبدأ اختيار القوى السياسية والحزبية لوزرائهم، يعني في شكل واضح انّ عملية استنساخ تجري لحكومة «مواجهة التحدّيات»، ولن يكون هناك وزراء مستقلون من غير الحزبيين. وعندها لن يتغيّر فيها سوى رئيسها ومعه بعض الوجوه. وان صحّت التسريبات بشأن تسمية بعض المستشارين للحقائب الاساسية، فإنّ ذلك يوحي انّ لكل من الاقطاب الأربعة او الخمسة حصة فيها ويمكنها ان تديرها من بعيد.
والى هذه الملاحظات التي يعتقد البعض انّها بديهية، فإنّ اياً من الديبلوماسيين لا يتجاهلها. فهي تزيد من إقتناعهم بضرورة التعاطي مع مجموعة من القوى السياسية في بعض الملفات الكبرى، قبل رئيس الجمهورية او الحكومة. فنجاح تجربة استئناف المفاوضات لترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل مع من يمثل «الثنائي الشيعي» قبل غيره، يمكن ان تتكرّر مرة أخرى في أكثر من قطاع. ومنها على سبيل المثال، اعادة اعمار مرفأ بيروت، وفي الكهرباء والوضع النقدي والمالي، قبل استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي واعادة برمجة الأسس التي بُنيت عليها في المرحلة المجمّدة. فهي توقفت في انتظار التفاهم على توحيد ارقام الخسائر في القطاع المصرفي والتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، عدا عن الحاجة الى قانون «الكابيتال كونترول» الذي لم يولد بعد، رغم سقوط الحاجة اليه في ظلّ استنسابية المصارف وتهريب الارصدة الكبرى الى الخارج. وكل ذلك لا يُعدّ سوى من موجبات واولويات الحكومة العتيدة، التي عليها القيام بها قبل التفكير بإعادة بناء علاقات لبنان مع دول الخليج العربي وبقية الدول والمؤسسات المانحة.
وإنطلاقاً مما تقدّم، فإنّ ما يثير قلق هذا الديبلوماسي، علمه بالحاجة الى فهم ما هو مطروح من متغيّرات في ملفات اساسية، بوجود خطط بدأت تطلّ بقرونها في الكواليس، وقد تحيي الجدل الذي لم ينته قبل استقالة حكومة دياب حول الحاجة الى التدقيق الجنائي في مصرف لبنان من عدمه، او لجهة اعادة النظر بطريقة احتسابها لحجم الخسائر في مصرف لبنان والقطاع المصرفي، بعكس ما رسمته حكومة دياب وما تركه الخلاف من تداعيات خطيرة غيّرت من وجه لبنان الحضاري والمنفتح على العالم وطريقة عيشهم، بعدما وجّهت اليهم دعوة صريحة للاستعداد لمرحلة طويلة من التقشف والذلّ والإنكماش على انفسهم.
وامام هذا الكم من العقبات يبقى الرهان – إن سقطت هذه القراءة المتشائمة كاملة – على قدرة التركيبة القديمة ـ الجديدة في اجتراح آليات وخطط جديدة توفر المخارج المدعومة من الخارج، لتتهاوى المخاوف الدولية واحدة بعد أخرى. وإلّا سنكون امام مرحلة اكثر صعوبة من قبل. فليس من السهل تغيير ما في اذهان وعقول الممسكين بزمام المرحلة، ما لم يغيّروا هم ما في انفسهم، مع احتفاظهم بمراكزهم ومواقع قواهم.