قراءة محمد جواد ظريف وزير خارجية إيران لأحوال بلاده الراهنة واحتمالاتها المفتوحة على الأسوأ، مميّزة ومؤثّرة وذات صدقية أكيدة، لكنها ليست استثنائية ولا غريبة ولا طارئة ولا مفاجئة ولا صاعقة ماحقة!
قبله كثيرون من أهل النظام وعصبه «الثوري» رأوا ما يراه الوزير ظريف الآن. وتوقعوا مآلات سيئة لهذه الرؤية قبله بكثير.. وافترضوا عن حق ودراية وعلم وسعة إطلاع، أن المسار الذي تسلكه القيادة الإيرانية تحت إشراف وتوجيه ورعاية «المرشد الأعلى»، صاحب الشأن والقرار الأول والأخير، ستكون له تداعيات كارثية على الدولة والكيان، ومن حيث المبدأ وقبل التفاصيل والتتمات..
بمعنى أن «الثورة» الدائمة والقابلة للتصدير تعني ديمومة أسبابها ومحفّزاتها! وهذا يقرص المنطق من أذنه بعد أربعة عقود من استقرار نظام هذه «الثورة»! وبعد أن اضمحلّت واختفت «القوى المضادّة» لها! وبعد أن أُحكِمَ التمسّك بكل مقوّمات القرار السيادي والدستوري والوطني بكل أبعاده ونواحيه من دون أي استثناء.. وبعد أن أخذت التجارب مدَياتها التامة، رئيساً تلو رئيس وحكومة تلو حكومة وخطّة تلو أخرى!
والمعضلة العامة في الشأن الإيراني هذا، تكمن في اعتماد منطق متضاد أو متعاكس: أقصى «الأصولية» إيماناً وتبشيراً في الدين والسياسة.. وبراغماتية قصوى بدورها في توسّل الطرق والسبل المفضية افتراضاً إلى تحقيق الأهداف المبتغاة.. وهذه عنت وتعني ولا تزال تعني (وإن كانت في أطوارها الأخيرة) النزول على الأرض من الشرفات السماوية! والتعامل مع الباطل باعتباره مفضياً إلى الحق! وارتكاب المحرّمات باعتبارها سبيلاً إلى الحلال! وزركشة العنف الاستبدادي بأثواب طُهرانية مقدّسة باعتباره أداءً «إيمانياً» لا بدّ منه للوصول إلى الخلاص المهدوي المرتجى!
ومعضلة المقدّس في السعي «الثوري» هي أن صاحبه بشري يتلبّس دوراً رسولياً.. ويفترض أن يقينياته صالحة تماماً للتعميم الخارجي طالما أنها نجحت في التعميم الداخلي.. أو طالما أنها «مبدئياً»، وفي العُرف الإيماني ذاك، هي الوصفة الأسلم والأصحّ لمعالجة أمراض البشر وشؤونهم! وأحوال الدول وشروطها! ولا يهم العنوان في هذا الميدان، من تروتسكي الماركسي اللينيني في مطالع القرن العشرين، إلى الخامنئي الديني (المذهبي + القومي) في مطالع القرن الحادي والعشرين.. فالأمر سواء! والخلاصيون نخبة منتقاة! وأحوال الدنيا ذاتها وإن تغيّرت «ملامحها» وأشياؤها وآلياتها وأدواتها وأنظمتها! وأحمالهم هم الرساليون والخلاصيون ثابتة أبد الدهر. لا تتغيّر بتغيّر الزمان! ولا تتطوّر بتطوّر المكان!
.. إيران اليوم حالة مستحيلة «ذاتياً» قبل «موضوعياً».. ثورتها العابرة تقوّض الدولة الدائمة، وتأخذ مكانها ودورها لكن من دون «القدرة» على الجهر والبوح والإعلان! ومن دون امتلاك ما يكفي من أسباب الاقتدار وشروطه.. والمنزلة بين المنزلتين هذه لا تنتج لحماً وحليباً وخبزاً بما يكفي للإشباع الداخلي، لكنها تسمح بتصدير فائض افتراضي سرعان ما يتبيّن أنه مُدّعى ومأخوذ من درب مستحقّيه (الإيرانيين) لتقديمه رشوة إلى الخارج توازي أثمان الادعاءات القطبية والمحورية المشتهاة!
والإيراني العادي اليوم يجد نفسه أمام واقع مرير: لا «الثورة» أينعت وانتهت مفاعيلها على خير ورخاء واستقرار! ولا «الدولة» قامت واكتملت وأدّت ما عليها من وظائف لا يستقيم وضع أي كيان حديث من دونها! وهذا ما يستدعي الافتراض السعيد بأن على أصحاب الشأن في طهران التصالح مع الواقع والكفّ عن الأوهام والأحلام! والتصالح مع الداخل الوطني قبل انتظار التوافقات الصعبة والمُكلفة مع الخارج البعيد! ثم الإقرار الشجاع بالخطأ والتراجع عنه، وليس دوام المكابرة، والادعاءات الأكبر من القدرات والإمكانات والأحجام والأوزان!
الكارثة المتدحرجة في إيران كانت بدأتها إيران في خارج إيران! وانتبه إليها جميع «ضحاياها»، قبل الوزير الظريف بسنوات طويلة!