التحذير الذي أطلقه رئيس المجلس النيابي نبيه بري من «وضع انقلابي» له مدلولاته، ومن الحكمة أن يفكر الجميع فيه ملياً. فالمدى الزمني المتبقي للحسم في قانون الانتخاب بات ضيّقاً جداً. وكل يومٍ بعده سيكون محفوفاً بالوجع!
في تقدير المتابعين أنّ تحذير بري من «وضع انقلابي يطيح بكل شيء» ربما ناتج عن معطيات تتكوّن في الأفق وتوحي بمخاطر جدّية آتية، وفي مدى ليس بعيداً.
ومن المفترض أن يقوم كلٌّ بتحمل مسؤوليته عما يمكن أن يحصل. فبالنسبة إلى رئيس المجلس، كان على الحكومة أن تقوم بواجبها أولاً باكراً في إرسال اقتراح قانون انتخابات إلى المجلس النيابي، بدل التلهّي في أمور أخرى ورمي الكرة في ساحة النجمة ليتخبّط بها الجميع.
ويقول المتابعون: «المهلة باتت ضمن أسبوعين. والنسبية هي المخرج الطبيعي من الأزمة، لأنها تحفظ للجميع حقوقهم في التمثيل. وعدم الرضوخ لمنطق العدالة النسبية في التمثيل يعني أنّ هناك مَن يقيم رهانات على مغامرات تقلب الوضع رأساً على عقب، خدمةً لمصالح معيّنة، وهذا الأمر ليس مسموحاً الوصول إليه».
لذلك، لن يقع الفراغ في المجلس النيابي، ولا في موقع رئاسته. وسيكون اضطرارياً التمديد له مجدداً، على الأقل حتى أيلول المقبل. والأفضل هو أن يكون هذا التمديد ذا طبيعة تقنية، ولا يكون تمديداً دستورياً ثالثاً للمجلس، بعد تمديدين استهلكا السنوات الأربع الفائتة.
وهذا التمديد التقني هو مسؤولية الحكومة في الدرجة الأولى. فهي قادرة على تجنّب المغامرات إذا أقرّت خطوطاً عريضة لقانون انتخاب يقوم على النسبية الكاملة، تاركة للنقاش شكل الدوائر: لبنان دائرة واحدة أم اعتماد المحافظات الخمس، وتفاصيل أخرى.
إنّ خياراً من هذا النوع يجنّب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون كأس استخدام المادة 59 القاضية بتجميد التشريع في المجلس النيابي شهراً كاملاً، في الشهر الأخير من عقده التشريعي العادي.
فهذه المادة لم يستخدمها رئيس للجمهورية قبلاً، وعون مقتنع بمخاطر اللجوء إليها، وإحداث فراغ في المجلس النيابي، مع ما يعكسه ذلك من ترددات على الاستقرار الداخلي.
إذاً، بعد عودة الرئيس سعد الحريري من بروكسل، سيكون على الحكومة أن تتفرَّغ، في غضون 10 أيام أو أسبوعين على الأكثر، لوضع الخطوط العريضة لقانون الانتخاب النسبي، ما يتيح للمجلس أن يبادر إلى اتخاذ القرار الأكثر أماناً، أي التمديد لنفسه تقنياً، حتى أيلول 2017 أو حتى حزيران 2018.
ويمكن الإفادة في هذا المجال من الانسجام القوي الحاصل اليوم بين رئيسَي الجمهورية والحكومة. فكلاهما مقتنعان بأهمية هذا الانسجام ويحرصان على استمراره وقطف ثماره لبنانياً، وفي مجال العلاقات مع المحاور الإقليمية. فمن خلال هذا الانسجام، يطوِّر عون علاقاته بالمحور السعودي، ويمكن للحريري الانفتاح على المحور المقابل.
الأجواء مهيَّأة للتسوية، مع اقتناع الحريري مبدئياً بأنّ النسبية باتت أمراً لا مفرّ منه. والاتجاه الغالب هو إقرار قانون انتخاب يقوم على النظام النسبي بالكامل، ضمن 5 دوائر هي المحافظات الخمس، مع التفاوض حول الصوت التفضيلي. ولكن السؤال المطروح هو: ماذا لو تعثّر التوافق في الحكومة على قانون، وبدأت تلوح مخاطر الانقلاب الذي تخوّف منه بري؟
في تقدير المتابعين أنّ الخيار المتاح في هذه الحال هو العودة في شكل طارئ إلى طاولة الحوار الوطني في قصر بعبدا، ووضع ملف قانون الانتخاب على رأس جدول الأعمال. وفي الواقع، لم يعد ملف سلاح «حزب الله» أولويّة لدى معظم الجالسين إلى الطاولة. ومن الأفضل الانتقال إلى ترتيب الملفات السياسية الداخلية.
وعندما يُطرَح ملف قانون الانتخاب بصفته أولوية، سيرمي بعض القوى ملفات أخرى على الطاولة للمقايضة، ما يجعل ملف الانتخاب مرتبطاً بملفات سجالية أخرى، كمجلس الشيوخ واللامركزية الإدارية الموسّعة وإلغاء الطائفية السياسية والجنسية.
عندئذٍ، سيطول النقاش عاماً على الأقل، ويتشعّب. ومن البديهي أن تتأخر الانتخابات النيابية مدّة كافية لتحقيق التوافق. وهذا التوافق على الأرجح إما أن يتعطل وإما أن يكون شاملاً الملفات كافة.
سيؤدي ذلك إلى الاقتناع بطرح بري «السلة المتكاملة» الذي تحدّث عنه عشية انتخاب عون. وعملياً سيؤدي إلى إنتاج نظام سياسي جديد. ولو أراد البعض تجنّب تسميته «المؤتمر التأسيسي»، فإنه سيكون مشابهاً لهذا المؤتمر في مضمونه ونتائجه. وستكون النسبية الكاملة خياراً محسوماً على المستوى النيابي، مع هامشٍ في التفاصيل، ولا سيما لجهة الصوت التفضيلي.
في هذه الحال، يقول قطب سياسي بارز، ستكون المعادلة هي الآتية: عون يتصالح مع «الطائف» الذي أقصاه ذات يوم. كما أنّ «الطائف» يعيد مصالحته مع عون. وفي عهد عون سيولد «الطائف» المتفق عليه لبنانياً، والملائم للقوى اللبنانية لا للقوى الإقليمية المهيمنة.
هذه الصورة، على رغم مصاعبها، هي المتفائلة. ولكن هل من مجال لمفاجآت سلبية. فماذا لو تأخّرت المبادرة التي يُفترض أن تطلع بها الحكومة في أقرب ما يمكن، ولامسَ المجلس النيابي حدود الخطر؟
الأوساط المتابعة جيداً، والمطّلعة على المواقف، تفضّل عدم الإجابة في هذه الحال. لكنها تعود بالذكرى إلى بعض التجارب المماثلة. وتقول: «في حالات كثيرة من هذا النوع، كان آخر الدواء هو الكَيّ. فهل واردةٌ استعادة النماذج التي تسبق التسويات التاريخية، بدءاً من الدوحة في أيار 2008؟ وكيف السبيل إلى تجنُّبها؟