Site icon IMLebanon

تفكك دول سايكس ـ بيكو

يحار العالم في ما يجري في بلدان المشرق العربي، الممتدة من البحر المتوسط الى البحر العربي والخليج. الحديث طويل وواسع عن التقسيم والفيديرالية الموسّعة، وتغييب أنظمة المركزية واللامركزية. وما تبقّى من القوى القومية تترحم على سايكس – بيكو، وربما قامت بتنظيم مراسم الدفن له. البحث في هذه المقالة يتركز على دول «الهلال الخصيب».

نبدأ بعراق حمورابي والحجاج وصدّام، حيث الإقليم الكردي يطالب بالاستقلال، والمحافظات السنّية تطالب بإقليم يُحكَم ذاتياً على مثال الإقليم الكردي حالياً، والمسيحيون والصابئة والايزيديون يفتشون عن سمات تسمح لهم بالاستيطان في الغرب، والشيعة الذين يمثّلون اكثر من 60 في المئة من سكان العراق حائرون بين ترك الامور تسير الى المجهول بعد «تحرير» المحافظات السنّية المحيطة ببغداد، او استرجاع كل العراق بعزم «الحشد الشعبي» واستعادة الطريق البرية التي تصل ايران والعراق بسوريا ولبنان.

سوريا، قلب العروبة النابض، تتفكك. حروب الكل ضد الجميع. حروب طائفية ومذهبية واثنية وطبقية. نجح التحالف الجديد للسعودية وتركيا وقطر في اقامة تجمع للمنظمات التي تمولها الدول الثلاث مع «منظمة النصرة» التابعة للقاعدة، واستطاع التحالف الجديد الاستيلاء على محافظة ادلب، وهو اليوم على ابواب محافظة اللاذقية، عرين نظام الاسد. هناك «داعش» التي تمددت من الحدود العراقية الى الحدود اللبنانية، مروراً بغوطة دمشق والمنطقة الجنوبية المحاذية للجولان المحتل، والشمال السوري الذي تطمح تركيا الى الهيمنة عليه، وبالاخص على مدينة حلب التاريخية. «النصرة» منفردة موجودة في كل انحاء سوريا، وهي في حرب مستمرة مع النظام و «داعش».

اما النظام السوري، كما يُدعى، فبعد اربع سنوات من المحاولات المكلفة بشرياً لاستعادة سيطرته على كل الديار السورية، يبدو انه أُنهك جيشه ويعيد وضع استراتيجيا جديدة لمواجهة الحرب الدولية والاقليمية المذهبية ضده. تشير المعلومات الى ان النظام قد يركز دفاعه على المنطقة الممتدة من محيط دمشق جنوباً الى حدود محافظة اللاذقية شمالاً، ومن نهر العاصي شرقاً الى المتوسط والحدود اللبنانية غرباً. النظام السوري لن يدافع، كما يشاع، عن البيئات الحاضنة لاعدائه والبعيدة عن اماكن تواجده العسكري المركزي. كذلك، بدا اخيراً ان «حزب الله» يركز على ازالة خطر المنظمات التكفيرية عن القرى اللبنانية المحاذية للحدود السورية حيث منظمتا «داعش» و «النصرة».

باختصار، السنّة في سوريا الذين يقارب عددهم الـ 60 في المئة، يريدون مركزية الدولة عكس مطالب اخوانهم سنّة العراق، بينما يبدو العلويون راغبين في تحقيق ما يصبو اليه سنّة العراق. أما الأكراد فيهدفون الى اقامة محافظة في شمال سوريا يكون لها الحكم الذاتي، والمسيحيون ضائعون بين ولاء للنظام واستجداء سمات دخول الى اوروبا، والدروز تائهون ومتمسكون بالارض.

الاردن على خط النار، في حيرة بين دعم جهود التحالف الاقليمي ضد النظام السوري والمحافظة على امنه ونظامه في حال استطاعت المعارضة السورية، وخاصة «داعش»، الاستيلاء الكامل على جنوب سوريا. الحركات السلفية المتطرفة قوية في الاردن، وينتشر شبابها في عداد الحركات التكفيرية التي تحارب النظام السوري. من ثم فإن امكان ارتدادها الى الداخل الاردني يهدد أمن نظام المخابرات فيه وسلامته، ناهيك بالصراع السياسي بين الاردنيين والفلسطينيين.

الى القوى العربية، هناك قوى اقليمية ودولية تؤثر على مجرى الاحداث في البلدين. اسرائيل مثلاً تساعد «النصرة» وغيرها من منظمات المعارضة في جنوب سوريا، وتقوم من وقت الى آخر باستعمال سلاحها الجوي لاضعاف نظام الاسد واعاقة مساعدة «حزب الله» له. هناك ايضاً الولايات المتحدة التي تدعو الى التغيير في النظام السوري، الا انها تخاف من تكرار ما حدث معها في العراق (2003) وليبيا (2011). تدعو واشنطن الى انتقال منظم للسلطة في سوريا، وهذا ما يتعارض مع اهداف حلفائها العرب والاقليميين.

لا حاجة الى تطرق تفصيلي الى أهداف ايران التي تساعد نظامي العراق وسوريا، وتدعم «حزب الله» في لبنان وفصائل الممانعة في غزة. اما تركيا فتساعد كل المنظمات التي تناهض النظام السوري بالسلاح والرجال والنساء حتى.

اللبنانيون ايضاً يحيّرون العالم في تصرفاتهم المتجاهلة لما يحدث في هذا المحيط الصاخب. يتصرف اللبنانيون كأنهم في جزيرة هادئة بعيدة عما يجري في منطقتهم. منهم مَن ينتظر سقوط الاسد لتقوية نفوذه، وآخرون يساعدون النظام لتثبيت وجودهم، ناهيك بالبعض الذي يتذكر العروبة العلمانية عندما يطالب مكون لبناني، وبالتحديد المسيحيون، بمساواة دستورية حسب ميثاقية الطائف. ورغم ان الجميع مدرك ان لبنان خاض حرباً اهلية واقليمية ودولية على ارضه لعقد ونصف عقد من الزمن، يتصرفون كأنهم لم يتعلموا من مصائب الحرب وكوارثها. من شغور رئاسي ومجلس نواب معطّل، الى مجلس وزراء لا يتقيد بالدستور ومواده، وكل وزير يفتح رئاسة جمهورية على حسابه، وقرارات كل يترجمها ويفهمها على هواه، الى هدم الصيغة الميثاقية التي أتُفق عليها في الطائف.

غريب امرنا نحن اللبنانيين. لا نتعلم من تجاربنا، ولا نتعلم من تجارب جيراننا ومحيطنا. نهدف الى اعلاء شأننا، ونعمل في الوقت نفسه على هدم ما نصبو اليه. وبينما يتجه المشرق العربي من اليمن الى سوريا نحو الفيديرالية المرنة، ناهيك بالتقسيم، تهدم الطبقة السياسية اللبنانية ما تبقى من ميثاقية مركزية تحفظ وحدة لبنان جغرافياً وديموغرافياً واقتصادياً وسياسياً.