تعجز القوى الأمنية اللبنانية، بفروعها الخمسة، عن تحديد خلاصات في ما يخصّ ملف السوريين في لبنان. وفق المعطيات الكثيرة المتوفرة لا شيء يُحضّر عملياً ضمن هذه البيئة، لكن لا يمكن للأمنيين التأكيد أنها بيئة مستقرة وآمنة ولا تمثل تحدياً دائماً للأجهزة منذ نحو عشر سنوات. وفيما كان الحديث عن الكلفة الاقتصادية للنزوح يشغل كثيرين (رغم أن لا دراسة جدية بعد تحسم الجدل بشأن الإيجابيات والسلبيات)، كان الجهد الأمني لمواكبة النازحين من دون عدة العمل التقليدية هائلاً أيضاً. وإذا كانت الحكومة اللبنانية تطالب المنظمات الدولية اليوم بتسليم ما لديها من معلومات فإن توحيد الحكومة لـ«الداتا الأمنية» وما جمعه كل جهاز أمني والبلديات يمكن أن يوفّر معلومات أكثر دقة مما لدى المنظمات الدولية، وخصوصاً أن ما لدى هذه المنظمات يتضمن مبالغات لمضاعفة مكاسبها وضمان استمرارية عملها والحصول على مزيد من المشاريع بما تتضمّنه من سمسرات.
وإذا كان هذا الملف يشهد صعوداً وهبوطاً موسمياً في الاهتمام الشعبي والسياسي، يمكن تحديد خمس محطات أساسية شهدها أخيراً:
1 – منذ نحو عام تقريباً، تحديداً في مؤتمر بروكسيل الذي لـ«دعم مستقبل سوريا والمنطقة»، اختلف موقف لبنان الرسمي جذرياً، إذ عبّر كل من وزير الخارجية عبدالله بو حبيب ووزير الشؤون الاجتماعية هكتور حجار عن موقف حادّ وواضح وحاسم لجهة وجوب تمويل عودة النازحين من لبنان إلى سوريا بدل الاستمرار في تمويل بقائهم في لبنان. مذَّاك، يمكن القول إن موقف هذين الوزيرين المعنيين مباشرة بملف النازحين لم يهادن أو يخضع للضغوطات المختلفة.
2 – تزامناً كان البطريرك الماروني بشارة الراعي يبحث – نتيجة إصرار الرئيس ميشال عون – هذا الملف مع الرئاسة الفرنسية ليُصدم بأجوبة جعلته يغير من نظرته إلى المجتمع الدوليّ برمّته، مع مواقف علنية تصاعدية، بلغت حدّ القول في أحد الفصح الأخير إن «المجتمع الدولي يحمي اللاجئين السوريين على حساب لبنان لأسباب سياسية ظاهرة وخفية»، مع معلومات تؤكد أن أزمة ثقة كبيرة تظلّل العلاقة التاريخية بين بكركي والإليزيه نتيجة الموقف الفرنسي – الأوروبي في هذا الملف.
3 – مقابل الموقف السعودي المستجدّ الذي جعل من النازحين مبرراً إنسانياً شكلياً لعودته السياسية إلى سوريا، ضاعف الأوروبيون من تشدّدهم ووقاحتهم، مع معلومات أولية تؤكد تلويح سفرائهم بالتوقّف عن تقديم المساعدات للقطاع التربويّ قي لبنان ما لم توافق وزارة التربية على تعليم السوريين واللبنانيين في صفوف مشتركة. علماً أن توحيد المناهج التربوية للسوريين واللبنانيين (الذي دافع عنه نائب رئيس الحكومة الياس بو صعب أخيراً) يمثل أبرز تحديات العودة.
4 – انتقل بعض المستفيدين مباشرة من النزوح السوري – مثل رئيس بلدية القاع بشير مطر – من بناء الحيثية المناطقية عبر توظيف المئات (أرقام بعض الموظفين في المنظمات الدولية تؤكد أن أكثر من نصف الموظفين والمتعاقدين مع هذه المنظمات من أنصار القوات اللبنانية) من المحسوبين عليه في المنظمات الدولية مقابل تسهيلات بلدية لهذه المنظمات، إلى نشر فيديوهات تظهره بطلاً «قومياً» وهو «يحقّق » مع أحد النازحين. مع الاحتمال الضئيل الذي كان قائماً لإجراء الانتخابات البلدية، كان واضحاً لمطر أن كل ما وظّفه وما كسبه من هذه المنظمات لن يؤمّن له الفوز مجدداً ما لم يستلحق نفسه بخطوة شعبوية.
5 – تواصل ضخّ الأكاذيب كالتي أطلقها رئيس «حركة الأرض» طلال الدويهي وتبناها وزير الداخلية السابق مروان شربل عن تزوير سوريين هويات لبنانية في عكار، إذ أنهى محافظ عكار عماد لبكي أول من أمس تحقيقه مع الدويهي وشربل والمخاتير المعنيين ومأموري النفوس وتبين عدم صحة كل ما تم تداوله. وآخر الأكاذيب ما سارعت بلدية اللقلوق إلى نفيه بشأن توظيف نازح سوري شرطياً بلدياً. كما أن أرقام استخبارات الجيش تؤكد أن أكثر من تسعين في المئة من العصابات التي يتم توقيفها في المناطق يرأسها لبناني وتضم سوريين، لكن لا يكاد يعلن عن أسماء الموقوفين حتى يتوقف الرأي العام عند وجود لبناني واحد وعدد كبير من السوريين لتضجّ مواقع التواصل الاجتماعي باتهام هؤلاء بالوقوف خلف تصاعد معدلات الجريمة، رغم أن العقل المدبّر والمخطط والمشرف على التنفيذ غالباً ما يكون لبنانيّاً يستخدم أدوات سورية.
6 – تزامناً مع ضخّ الأكاذيب، أعيد نشر كلام قديم لمعارض سوريّ يدعى كمال اللبواني، قاله في 27 تشرين الأول 2022 دون أن يحظى بأي اهتمام إعلامي أو شعبي، لتقرر جهة مجهولة نبشه وضخّه من جديد. قبل أن يستكمل هذا المسار بحلقة خاصة من مرسيل غانم.
7 – بموازاة هذا كله تواصل الدولة السورية التعامل بحذر مع هذا الملف، من دون عاطفة أو حماسة أو تهور، رابطة بوضوح بين العودة وإعادة الإعمار: لا يمكنها استقبال مئة أو مئتي ألف نازح من دون تأمين مساكن ومدارس وكهرباء ومياه ومستشفيات لهم. وفي ظل الحصار والعقوبات، يفترض بمن موّل التدمير أن يموّل إعادة الإعمار.
عليه، يمكن القول إن هناك تمايزاً سعودياً عن أوروبا والولايات المتحدة وقطر في ما يخص هذا الملف، ففيما تقول السعودية إن إعادة النازحين يمكن أن تشكل المدخل للعودة السياسية والمالية إلى سوريا، تتشدّد الدول الأوروبية وتتعجرف وتتجاوز كل الحدود الأخلاقية والدبلوماسية. وإذا كان يمكن ربط «تكويعة» بعض الأفرقاء مثل القوات والكتائب (وقريباً الزعيم فارس سعيد) وتلفزيون المر بالموقف السعوديّ المستجد، فإن لدى كل من الأوروبيين والأميركيين والقطريين أدواتهم أيضاً، إضافة إلى وجود أكثر من ثمانية آلاف موظف ومتعاقد مع هذه المنظمات الدولية يُراوِح أجر الواحد منهم بين 2000 و8000 دولار، يُقدّر أن يبحثوا عن كل ما يمكن فعله للحفاظ على وظائفهم المرتبطة ببقاء النازحين السوريين. وهو ما يسري أيضاً على منظمات أوروبية وسفارات تجاوزت مخصّصاتها في السنوات القليلة الماضية حدود المنطق ولا تريد بأي شكل العودة إلى حجمها الطبيعيّ السابق. في وقت، يواصل العقل الأمني لحزب الله التصرف على أساس أن المصالحة السعودية – الإيرانية نزعت من الأميركيين والإسرائيليين إحدى أبرز أدواتهم في العقدين الماضيين، ما يحتّم عليهم البحث عن أدوات جديدة، قد تكون إحداها بعض النازحين السوريين.
من ملف : دمشق لتعاون وزاري لا أمني في ملف النازحين