رغم تراجع حدّة الخلاف وهدوء وتيرة التصعيد بين التيار الوطني الحر و»حزب الله» بعد المقابلة التلفزيونية لرئيس التيار الوزير جبران باسيل، إلّا أن الخلاف بين الجانبين أعاد تسليط الضوء على معضلة أساسية عانى ولا يزال يعانيها النظام اللبناني. الخلاف الأخير حول الجلسة، ورغم مشاركة عدد من الوزراء المسيحيين فيها، أخرج الحديث حول الميثاقية من جديد إلى العلن، والميثاقية بمعناها السياسي الضيق هي الإنقسام العمودي المسيحي الإسلامي حول الحكم في البلاد.
قد يستخلص البعض ممّا حصل في الأسبوعين الأخيرين أنّ ورقة التفاهم بين التيار و»حزب الله» هي التي رسّخت السلم الأهلي في السنوات الـ16 الأخيرة، وأنّ اللعب على عامل إنهائها سيضرب التوازن في مكان ما، ويعيدنا إلى مرحلة اشتباك سياسي شهدتها فترة ما بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، يضاف إليها اصطفاف طائفي شَهده اللبنانيون في فترة ما قبل الطائف. وجهة نظر قد لا تكون متناقضة ولكنها لا تتّفق مع النظرية الأولى، تقرّ بأنّ ورقة التفاهم ساهمت بما ساهمت به، لكنّ واقع الأمور يقول انّ غياب الراعي الإقليمي عن الساحة، وانهيار التفاهمات الدولية التي بُني الطائف على أساسها هما السببان الفعليّان في الوصول إلى هنا، وما ورقة التفاهم سوى عامل مؤخّر لنتيجة حتمية، وهي الإنفجار أو مؤتمر تأسيسي جديد.
بالطبع قد يكون المؤتمر التأسيسي عامل تخويف لا تطمين لشريحة واسعة من اللبنانيين وتحديدًا المسيحيين، ولذلك خرجت قبل فترة فكرة المؤتمر التطويري للطائف. فبحسب المعلومات، إنّ الخلاف السعودي الأميركي الذي بدأ مع وصول الرئيس بايدن، والذي تفاقم قبل فترة وجيزة، انعكس على ساحات التقاطع بين الدولتين، وإحداها لبنان، وحينها عجزت السفارة السويسرية في بيروت عن متابعة المهمة الموكلة «دولياً» إليها وهي جَمع الأفرقاء اللبنانيين على طاولة حوار تؤدّي إلى قيام مؤتمر يؤسّس لاستقرار في الحياة السياسية اللبنانية لسنوات مقبلة. هذا الخلاف، والذي تشير كل المعطيات الى أنه لن يستمر طويلاً، لا بدّ بعد بزوغ فجر التفاهم فيه من أن يعود وينعكس ايجاباً على ساحات التقاطع، ليقود إلى تطبيق الرغبة الدولية في اعادة إنتاج السلطة اللبنانية على أسسٍ أمتَن.
الرغبة الدولية هذه تتلاءم تماماً مع العجز في معالجة ما يعتري النظام اللبناني من ثغرات. ثغرات كبيرة تمنع الحياة العامة من الإستقامة، من تأخير الإستحقاقات الدستورية وصولاً إلى التباين في الصلاحيات بين السلطات والشلل الذي يضرب القضاء ويكبّله بقرار سياسي يمنع عملية المحاسبة. هذا الأمر كان الدافع الأكبر نحو الترويج لفكرة المؤتمر التطويري، ليأتي الخلاف بين «حزب الله» والتيار الوطني الحر، والإنزعاج الذي تولّد مسيحياً ولدى المرجعيات من أداء الرئيس ميقاتي «الرئاسي» في مكان، إلى الدفع نحو بدء الحديث عن ضرورة ولادة هذه الخطوة.
«لاءات» ثلاث ستُرفع لبنانيًا بوجه أي مؤتمر ينال من مكتسباتٍ منحها الطائف للطوائف. فبالطبع لن يجد أي مؤتمر قبولًا حين تُطرح فكرة ضرب المناصفة، فهو إن حصل سيكون بغاية تثبيتها لا ضربها. لن تقوم قائمة لمؤتمر أيضًا يبدّل من الحضور السني على مستوى الدولة. وبالطبع لن يُبصر أي مؤتمر النور إن كان هدفه مناقشة مسألة تسليم السلاح، أمّا بقاؤه في اطار استراتيجية دفاعية فهذا الأمر مُتاح للنقاش الداخلي ضمن ظروف معينة وحالة من الإستقرار العام.
هنا تكون طاولة النقاش أوضح ببنودها، وتتصدرها مسألة بناء الدولة التي تبدأ بتحرير القضاء وتأمين استقلاليته، وصولًا إلى تدقيق جنائي واعادة صياغة لشكل القطاع المصرفي ومضمونه. علاوةً على ذلك لا بدّ لأيّ مؤتمر سيحصل من أن يقوّم الإعوجاج لا أن ينسف حضور من ساهموا به، وهنا لا بدّ من أن يطال النقاش مسألة قوانين الإنتخاب وتشكيل الحكومة ومهلها الدستورية.
الأهم من كل ما ذُكر أن مسألة اللامركزية الإدارية الموسّعة باتت ضرورة للنظام، ليس من أجل نسفه بل من أجل بقائه. فالإستمرار اليوم بكل أشكال الخلاف والسماح بتكريس طائفيتها وانقساماتها العمودية يعني بشكل مباشر أن الإنفجار حتمي، والإنفجار قد يذهب بلبنان إلى شكل لا يريده دُعاة الحلول اليوم، وعليه تكون اللامركزية الإدارية الموسّعة مخرجاً لائقاً لنظام مُتهالك.
النصف الممتلئ من كأس الخلاف بين التيار الوطني الحر و»حزب الله» قد يكون حلّاً طويل الأمد يثبّت النظام ويرمّم أساساته، فهل بات المؤتمر التطويري أقرب من أي وقت مضى؟