IMLebanon

تقسيم المنطقة الى كيانات مذهبيّة وقبليّة بعد إنهاك وترويض أطراف الصراع

كاتب وسياسي

مسلسل المفاجآت والمتغيرات في المنطقة لا يتوقف، وسنشهد المزيد منها في الأسابيع والأشهر المقبلة مع تزخيم وتأجيج الحروب المتنقلة ودخولها في مراحل متقدمة تسبق مرحلة التصفيات النهائية والتسويات التي ستُفصّل على قياس الوقائع والحقائق الجديدة على الارض.

آخر هذه المتغيرات تمثل في عملية انتقال السلطة في المملكة العربية السعودية من جيل الابناء إلى جيل الاحفاد وهي اجراءات غير مسبوقة ليتسلم الشباب مقاليد الحكم في بلد طامح إلى دور قيادي ومحوري في العالمين العربي والاسلامي. 

من هنا يمكننا القول ان السعودية التي عرفناها لعقود بلد الدبلوماسية والحوار وتدوير الزوايا لن تكون هي نفسها بعدما لفحتها عواصف المنطقة، وهذا سيجعلها تدخل تغييرات جذرية على نهجها وسلوكها، كما سينعكس ذلك ايضاً على سياساتها التي صارت أقل تحفظاً وأكثر اندفاعاً، وان التغيير الجديد على مستوى السلطة سيجر كما يبدو إلى اعتماد سياسة اكثر تشدداً مع ايران لمحاولة وقف حركتها التوسعية في المنطقة بعدما بلغت حدّها الاقصى بوصولها إلى الحديقة الخلفية للسعودية وطرق ابوابها وحدودها …

اما بالنسبة للدول التي ضربتها عواصف ما اصطلح على تسميته «الربيع العربي« فهي مقبلة دون ادنى شك على تغيرات في جغرافيتها وانظمتها السياسية وفي دساتيرها وداخل حدودها ولن تعود هذه الدول كما كانت وانما ستُقسم الى كيانات طائفية أو قبلية أو جهوية أو عرقية تبعاً لتركيبة كل بلد المجتمعية والسكانية، العراق وسوريا وليبيا واليمن دخلوا في حرب طويلة لن تنتهي ألا بعد استنفاد طاقتهم واهدافهم وقواهم واستسلامهم للواقع الجديد على الارض.

وفي هذا الاطار تحديداً نسأل: هل من الممكن ان يعود العراق كما كان وان نُلغي هذا الفرز الحاصل على الأرض بين أقاليم طائفية وعرقية ؟ وهل نتصور ان سوريا التي كنا نعرفها ستعود كما كانت؟ وهل يمكن لليمن ان يخرج من أزمته المتأرجحة بين حرب أهلية ونزاع اقليمي من دون تنازلات مؤلمة من الجميع؟ وهل ما حصل ويحصل في ليبيا هو مقدمة للانتقال الى مرحلة انشاء اقاليم على اساس قبلي وجهوي ؟ 

في العراق سقط الاعتقاد الذي ساد بعد الانسحاب الاميركي بان هذا البلد دخل مرحلة الاستقرار والحلول خصوصاً بعدما جاء تنظيم «داعش» ليقلب الطاولة والمشهد العراقي رأساً على عقب ويعيد الوضع إلى نقطة الصفر… فبعد هذا الانسحاب الذي سموه يومها «تكتيكي» والله أعلم، ترك هؤلاء وراءهم وضعاً مفخخاً ما لبس ان انفجر وما زالت انفجاراته تتوالى فصولاً على كامل الارض العراقية وبعض البلدان العربية وادى الى فرز سكاني مذهبي وتهجير المسيحيين وبعض الاقليات الاخرى من مدنهم وبلدانهم وتدمير ممتلكاتهم وكنائسهم ومعابدهم واثاراتهم التاريخية . 

حينها ظن الايرانيون ان في وسعهم ملء الفراغ الأميركي في العراق وضبط الوضع الأمني في البلاد، فاكتشفوا ان ظنهم لم يكن في محله وان «حساب الحقل لا ينطبق على حساب البيدر» وان المشروع (الاميركي- الصهيوني) هو اكبر من الجميع . 

اما في سوريا فقد تأكدت وترسخت القناعة بان البلد دخل في حرب استنزاف طويلة طالما ان الحسم العسكري متعذر على أي من طرفيها الرئيسيين، النظام والمعارضة، وان أفق الحل السياسي مسدود وابوابه موصدة حتى ولو حصل «جنيف 3». 

وفي التفاصيل ان واشنطن مارست منذ انفجار الأزمة والحرب في سوريا سياسة الانكفاء والحياد السلبي فهي لم تمارس يوماً ضغوطاً جدية على النظام ولم تقدم دعماً جدياً للمعارضة وتركت الوضع يتفاقم ويتفكك بما يؤدي إلى اطالة أمد الحرب إلى ان تحقق اهدافها المرسومة لها، وكذلك إلى توريط واستنزاف اطراف كثيرة في المستنقع السوري بدءاً من ايران وحلفائها مروراً بالسعودية وبعض دول الخليج وصولاً إلى تركيا وحلفائها .

اما اليوم وبعدما كان النظام استعاد زمام المبادرة على الأرض منذ أشهر خصوصاً في مرحلة التفاوض (الاميركي – الايراني) حول النووي، فانه بدأ يفقدها منذ أسابيع وبدأ يرتسم واقع جديد وميزان قوى جديد أكثر تكافؤاً بين النظام والمعارضة التي يطغى عليها اللون الاسلامي المتشدد, وهنا لا يعود مهماً أسباب هذا التقدم الذي تحرزه فصائل المعارضة في شمال سوريا وجنوبها بقدر ما صار مهماً الوقوف على نتائج هذا الواقع الجديد الذي يفيد ان سوريا باتت مقسمة إلى مناطق ونفوذ وان الاحجام والادوار المستقبلية فيها تُرسم بالنار والدم والبارود. 

أما في ليبيا فقد دفعت واشنطن الدول الاوروبية إلى الواجهة وفضّلت قيادة التحالف الدولي من وراء الستار حتى لا تتكبد خسائر وتكاليف. 

وفي اليمن كان للولايات المتحدة الاميركية دور في حدوث الاصطدام العنيف بين ايران والسعودية في هذا البلد الفقير والممزّق.

فالاميركيون أوحوا للايرانيين بان مجال التقدم والتوغل في اليمن والسيطرة عليه مفتوح أمامهم تحت مظلة الاتفاق النووي … وفي الوقت نفسه شجعوا السعوديين على التدخل في اليمن واعطوهم الضوء الاخضر لاطلاق «عاصفة الحزم» وساهموا فيها استخبارتياً عبر معلومات ولائحة اهداف للضربات الجوية، ودبلوماسياً عبر القرار الصادر عن مجلس الأمن ما ادى الى دخول الطرفين المتصارعين في حرب استنزاف عرفنا كيف بدأت ولا يعرف أحد متى وكيف ستنتهي. 

ما يجري في المنطقة راهناً وما تتجه إليه الامور مستقبلاً يصب كله دون اي شك في مصلحة اسرائيل التي تبحث منذ قيامها عن طرق وظروف لإعادة ترسيم المنطقة وتقسيمها الى دويلات طائفية ومذهبية وقبلية بما يتناسب مع طبيعتها وتكوينها، ووجدت أخيراً ضالتها مع انفجار الصراع «السنيّ – الشيعي» الذي عملت على تغذيته ونفذت من خلاله إلى داخل المجتمعات والانظمة العربية لتعبث باستقرارها وتعبث فيها خراباً وانقساماً ودماراً ودماً ودموعاً.

ولكن اسرائيل التي تلعب من خلف الستارة ما كانت لتنجح في مخططاتها وطموحاتها لولا الدور الأميركي الفعّال في هندسة وإدارة الصراعات والتناقضات والتوازنات.

وفي هذا المجال اثبتت الاحداث في المنطقة ان الرئيس باراك اوباما لاعب ماهر وبارع في إدارة التناقضات والصراعات واللعب عليها وتوجيهها بالاتجاه الذي يخدم مصالح الولايات المتحدة ومشاريعها الشرق أوسطية، وإذا كان كثيرون يصفون اوباما بانه رئيس متردد وحائر ولا يقدم على قرارات صعبة وكبيرة وهو أضعف وافشل رئيس جمهورية عرفته الولايات المتحدة، فان الواقع يدل والتاريخ سيكتب ان باراك اوباما هو «أذكى» الرؤساء الاميركيين واكثرهم خبثاً ودهاءً لأنه نجح في اخراج الولايات المتحدة من ورطة الحروب والتدخلات العسكرية الخارجية في أكثر من بلد في هذا الشرق الملتهب، وفي توريط دول أخرى في هذه الحروب لتقاتل نيابة عن الولايات المتحدة ولمصلحتها، كما استطاع تحقيق مكاسب اساسية تصب في مصلحة ما يسمى بـ «الشرق الاوسط الجديد» من دون ان يدفع مالاً اميركياً او يضحي بحياة جندي اميركي واحد، فهو قاتل بجيوش غيره وموّل حروب المنطقة بمال غيره … 

في الخلاصة الأمور متجهة دون أي شك إلى قيام كيانات وأقاليم طائفية وعرقية وقبلية في المنطقة العربية, وما يؤكد صحة هذه النظرية يومآ بعد يوم ان الإدارة الاميركية وحلفائها الغربيين لم يقوموا بأية مبادرات عملية او بأية ضغوطاً جدية لاحتواء الصراعات المتفجرة في المنطقة وانما شجعوها وتركوها تتطور وتتفاقم وتأخذ مداها إلى حين استنزاف كل اطراف الصراع وايصالهم منهوكي القوى إلى طاولة المفاوضات والتسويات فلا يعودوا قادرين على رفض ومقاومة التسويات والمشاريع والمخططات التقسيمية التي ستفرض عليهم، وانما سيصبحون متقبّلين لها ومنخرطين فيها وراضخين للواقع العربي الجديد الذي لن يعود إلى الوراء، وللقدر الاميركي الذي لن يُرد…