بات واضحاً أن سباقاً بوتيرة سريعة انطلق بين قوى إقليمية معنيّة بفوضى الحرب السورية ومستنقعات الطائفية في العراق، لإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة في مرحلة ما بعد الرئيس بشار الأسد.
لا يعني ذلك أن السوريين باتوا على موعد مع سلام يُنهي مآسيهم، ويطوي الفظائع التي عاشوها سنوات، بل يعني أن مرحلة أخرى ستبدأ، سواء انكفأ الرئيس السوري إلى معقل في اللاذقية، أو أقنعه حليفاه الروسي والإيراني بمنفى خمس نجوم على بحر قزوين أو في سوتشي.
«النقص في الطاقة البشرية» لدى النظام السوري، كما اعترف الأسد، ليس وحده جوهر المعادلة المتقلّبة. وأن تصرّ دمشق على أن الدعم الإيراني لما يرتكبه النظام لن يتغيّر، فذاك ليس سوى أمنية، وإلا لما اضطر إلى نقل قوات إلى مناطق يمكنه الدفاع عنها، مرحلياً، بالبراميل المتفجّرة وسواها.
ما تغيَّر هو أن إيران ما بعد الاتفاق النووي لن تكون ما كانت قبله. لكنها لن تنقلب داعية سلام، ولن تسحب أصابعها من المنطقة العربية، فقط لإرضاء الغرب. لن يحصل ذلك سريعاً، رغم كل الغزل الأوروبي والتسابق على زيارة طهران. وإن كانت إيران اعترفت للمرة الأولى بأن ملف القضايا الإقليمية سيُفتح في حوار على مستوى رفيع مع الاتحاد الأوروبي، فالحال أن شهوراً طويلة من تراجعات النظام السوري وفقدانه السيطرة على مناطق واسعة في سورية، ربما أقنعت الإيرانيين بلا جدوى إنفاق البلايين التي أُهدِرت لدعم «صمود» الأسد.
ومثلما فوّض الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الأوروبيين التفاوض مع طهران على القضايا الإقليمية وعلى البيئة والتجارة، يُرجَّح أن تفوِّض إيران إلى الكرملين البحث عن مخرج لمأزق الأسد، من أجل تفادي سيناريوات أكثر سوءاً، أبرزها سنوات مديدة من القتال بين «داعش» والفصائل التي تحارب النظام السوري.
ولم يكن مريحاً لأنقرة أن ترى مقدار الغزل المتسارع الذي يطلق الغرب إشاراته إلى إيران، فيما شركاته تتسابق على العقود والصفقات، لتحظى بحصة في كعكة السوق الإيرانية. لا يريح تركيا أن تخرج إيران من قفص الحظر الدولي والعقوبات الأميركية- الأوروبية، لتكتسب مزيداً من القدرات المالية التي تمكّنها من تحصين مواقع النفوذ، وإنعاش قدرة أدواتها وحلفائها على أداء الأدوار المطلوبة بالوكالة.
وإذا كانت الأولوية لدى طهران أن تحافظ على إمساكها بالورقة العراقية، أي الحديقة الخلفية، فيما تجني تدريجاً ثمار التطبيع مع أوروبا وأميركا، فتركيا المنافس الإقليمي لإيران، لن تبقى «جنّة» المنطقة اقتصادياً، ولا واحة استقرار منذ انكشف التفاف حزب العمال الكردستاني على مفاوضات السلام مع أنقرة، بتحالفه مع الأكراد السوريين الذين يطمحون إلى نموذج إقليم كردستان العراق.
هاجس آخر للرئيس رجب طيب أردوغان، مهما كانت تطلُّعات حزبه إلى الثأر من الانتخابات النيابية الأخيرة، هو أخطبوط «داعش» الذي تمدّد من الحدود التركية- السورية إلى الداخل.
والمفارقة في ظل تبدُّل علاقة طهران مع الغرب، من العداء إلى الغزل، أن علاقته مع أنقرة ما زالت تتأرجح على حبال انعدام الثقة. فليس سراً أن تركيا تُدرك ما يمثّله الكردي «المدلّل» لدى واشنطن- إذا استثنينا حزب العمال الكردستاني- وبدا أن أردوغان اختار مقايضة التحاقه بالتحالف في الحرب على «داعش»، بورقة بيضاء تتيح له ضرب «الكردستاني» في كل مكان.
وأما السجال الأميركي- التركي المُعلن حول مناطق آمنة في شمال سورية، أو منطقة آمنة خالية من «داعش» يحرسها تركمان سورية، و «جزر» آمنة وحظر جوي، وغطاء جوي للمعارضة السورية المعتدلة فقط، فلا يعكس سوى عمق الأزمة الطويلة بين أنقرة وواشنطن، منذ اختارت إدارة الرئيس باراك أوباما «التعايش» مع نظام الأسد، بلا أسنان كيماوية تزعج إسرائيل.
أقلقت نار الحرب السورية طويلاً الحدود التركية التي يُفترض أن يحميها الحلف الأطلسي، كلما تعرّضت لتهديد. لكن الثنائي أردوغان- أحمد داود أوغلو اكتشف أن تداعيات الحرب نقلت الخطر إلى قلب تركيا التي تعاطف أكرادها مع الأكراد السوريين، وجميعهم يرى فرصة سانحة لكيان خاص، أسوة بأكراد العراق الذين يعتبر الغرب أنهم باتوا يمتلكون مقوّمات دولة.
كل ذلك يبرر قلق أردوغان، ويحيّره بل ما زال يخيِّب أمله رفض أوباما إعلان منطقة آمنة في شمال سورية، بحماية طيران التحالف الدولي. فتح الرئيس التركي قاعدة أنجرليك لحرب التحالف على «داعش»، واختار «تقسيم» الحدود مع سورية أو تجزئتها في مناطق مغلقة، لتشديد الرقابة على تسلُّل «داعش» وخطره، فيما المقاتلات التركية تلاحق «الكردستاني» … ولا تضمن زوال خطره.
بين إيران والغرب غزل في بداية «شهر عسل» يُقلِق المنطقة… وبين تركيا والتحالف، اختبار مرّ، خصوصاً بعدما تلكّأ أوباما طويلاً، وترك السوريين في مواجهة إبادة، وحرم الأتراك من رتبة الحليف المميّز، على خاصرة «الأطلسي».