اشتريت أثناء وجودي في مطار لوس أنجيليس يوم الثلاثاء الموافق 24 أيلول صحيفة نيويورك تايمز، وأثناء تصفحي لها وجدت على كامل الصفحة التاسعة إعلانا يصف حزب الله بالمنظمة الإرهابية، مع تعداد الدول الرئيسية التي تصنفه في خانة الإرهاب، مع محاولة للتشهير بالإتحاد الأوروبي الذي يرفض حتى الآن اعتماد مثل هذا التصنيف. يؤشر هذا الإعلان الذي موّلته إحدى مجموعات الضغط الأميركية إلى وجود محاولات فعلية للنيل من سمعة ومكانة لبنان كمجتمع وكدولة، وبأن هذه الحملة إذا ما استمرت ستؤدي إلى اعتبار لبنان «دولة مارقة» يجب محاصرتها ومقاطعتها.
تأتي هذه الحملة الأميركية الهادفة للضغط على الإدارة الأميركية والكونغرس والرأي العام الأميركي والدولي في الوقت الذي بدأت وزارة الخزانة الأميركية باتخاذ اجراءات قاسية من أجل توسيع مفاعيل العقوبات التي تستهدف قيادات حزب الله في لبنان والخارج، والتي وصلت مؤخراً إلى تصفية «جمّال تراست بنك»، والتي حضر مساعد وزير الخزانة مارشال بالينغسلي إلى بيروت للاشراف على تنفيذها. وترافقت زيارة المسؤول الأميركي مع «شائعات» تؤكد على وجود رزمة جديدة من العقوبات، والتي قد تصل إلى إدراج شخصيات لبنانية من غير الطائفة الشيعية على لائحة العقوبات، وأشارت بعض المصادر أن يكون وزير الخارجية جبران باسيل بين هذه الأسماء.
لم يعد الإستهداف الأميركي لقيادات حزب الله ولرجال الأعمال الشيعة مجرد عملية إنتقائية للضغط على الحزب والدولة اللبنانية، بل تطور ليتحول إلى حملة واسعة ومركزة تستهدف مؤسسات مالية، وستؤدي إذا ما استمرت إلى تساقطات مالية وسياسية لا طاقة للبنان على تحملها.
ترافقت هذه الحملة الأميركية مع انفجار أزمة الدولار في بيروت حيث أدى فقدان السيولة بالدولار الأميركي إلى ارتفاع تسعيرته في السوق الموازية الى مستويات غير معهودة وخطرة، كما أدى ذلك إلى إرباك عمليات الإستيراد للسلع الأساسية والاستراتيجية.
صحيح أن الأزمة الاقتصادية ليست بجديدة، وهي نتيجة طبيعية لتراكمات مستمرة منذ عام 2013، وهذا ما يؤكده مؤشر النمو الاقتصادي المتراجع من 2.6 الى مستوى السلبية في عام 2018-2019. وكان من الطبيعي جداً أن تؤثر الأزمة السورية على الوضع الاقتصادي اللبناني بعد انقطاع جميع طرق المواصلات البرية باتجاه العراق والخليج، وكنتيجة مباشرة لتدخل حزب الله عسكرياً في الحرب، وانعكاس ذلك سلباً على الأوضاع السياسية الداخلية، وعلى علاقات لبنان الدولية والعربية.
ترافق هذا التدخل مع هجمات مكثفة شنها الأمين العام لحزب الله السيد نصر الله في خطاباته المتتالية ضد أنظمة الدول الخليجية، وذلك على خلفية مواقف هذه الدول من نظام بشار الأسد، ومن الهجمة الإيرانية على الدول العربية، وإثارة المشاكل والنعرات المذهبية وتهديد الاستقرار فيها من خلال تحريك عدد من الميليشيات والقوى التي تخضع لسلطة الحرس الثوري.
لا يمكن ربط أزمة الدولار التي بدأت ملامحها منذ بضعة أشهر بالركود الإقتصادي فقط بل هناك مجموعة من العوامل المؤثرة التي فاقمت الأزمة بسرعة فاجأت الناس ومعهم الرئيس العماد ميشال عون، والذي عبّر عن ذلك في طريق عودته من نيويورك. من أبرز هذه العوامل على سبيل المثال لا الحصر نذكر: أجواء عدم الثقة بأداء النظام السياسي، مع استشراء آفة الفساد، بالإضافة إلى العجز المالي في موازنة الدولة مع تصاعد متسارع لخدمة الدين العام، والذي فاق نسبة 150 في المئة من حجم الناتج المحلي العام. دفع هذا الأمر مؤسسة «فيتش» إلى خفض تصنيف لبنان الإئتماني، مع إمكانية مواجهة مزيد من مخاطر خفض هذا التصنيف في المستقبل تحت تأثير الضغوط الأميركية والعربية، والتي ستتسبب بإضعاف الثقة بالأوضاع المالية والمصرفية، وبشح التدفقات المالية والاستثمارات العربية.
سيكون من نتيجة مثل هذه التطورات السلبية في السوق المالية مزيد من الضغوط على ميزان المدفوعات، وتراجع الاحتياطي العام بالنقد النادر لدى مصرف لبنان ولدى المصارف الخاصة.
إن محاولات البعض لربط أزمة الدولار بوجود مؤامرات خارجية وداخلية لدفع لبنان إلى الفوضى والإفلاس لا ترتكز على أية معلومات أو معطيات صحيحة أو واقعية، حيث يدرك الجميع بأن أساس الأزمة المتراكمة هو من صنع اللبنانيين أنفسهم، وذلك من خلال العبث السياسي والمالي الذي ارتكبوه خلال سنوات عديدة، بدأت مع إندلاع الحرب في سوريا. يضاف إليه الحملات المركزة التي شنها حزب الله على الأنظمة العربية، والمترافقة مع الأداء السيئ لوزارة الخارجية اللبنانية في إدارة سياسة لبنان مع الدول العربية، حيث أدى ذلك إلى تخلي الدول الخليجية عن مؤازرة لبنان سياسياً ومالياً على تخطي المصاعب التي يواجهها.
في النهاية نحن في بداية المواجهة بين ايران ومعها حزب الله وبين الولايات المتحدة، وهي مرشحة للتفاقم بفرض مزيد من العقوبات على حزب الله والنظام المصرفي اللبناني، وبعض الرسميين اللبنانيين. سيؤدي ذلك مع استمرار مجموعات الضغط الأميركية بحملتها لاتهام لبنان بالإصابة بطاعون الإرهاب (وفق ما يؤشر إليه إعلان نيويورك تايمز) إلى فقدان الثقة بالأوضاع المالية والمصرفية، وبالتالي إلى هروب الرساميل والودائع إلى الخارج.
تقتضي المخاطر التي يواجهها لبنان أن يدرك حزب الله بأن استقلالية قراراته وخياراته عن قرارات وخيارات الدولة ستقود البلد إلى السقوط والإفلاس. لكن لم يعد من الممكن أن يقف رئيس الجمهورية ووزير الخارجية موقف المتفرج من خيارات حزب الله، وبات لزاماً عليهما التصرف وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية العليا لانقاذ لبنان من الانزلاق بقوة وراء خيارات حزب الله، مع ضرورة تصحيح مسار السياسية الخارجية اللبنانية لاسترجاع موقع لبنان الممّيز في قلب المعادلة العربية والدولية.