Site icon IMLebanon

الدولار إن حكى

 

من يحتاج الدبابات والصواريخ والطائرات حيث تنتشر الطلائع المتقدمة للدولار؟ من يحتاج لاحتلالات عسكرية مكلفة إذا كانت العملة الأميركية، حتى إشعار آخر، هي «الحاكم المدني» الفعلي في الجزء الأكبر من عواصم العالم؟ الحرب التي يواجهها الإرهاب الدولي، لا سيما ذاك المرعي إيرانياً عبر ميليشيات غاية في التعقيد والخطورة كـ«حزب الله»، جديدة ومقعدة. ليست الحكومة الأميركية وحدها من تقود هذه الحرب. المجتمع المدني بكل ألوان طيفه، وفي أحيان بعيداً عن المصالح المباشرة التي تقررها الإدارات الأميركية، يستثمر في بنية قانونية معقدة تطورت خلال العقد الفائت، جعلت من العقوبات الاقتصادية واحدة من أقوى أذرع السياسة الخارجية الأميركية.

 

جديد هذه الحرب دعوى مدنية رفعتها ثلاث شركات محاماة أميركية، بوكالتها عن عائلات ضحايا سقطوا أو أصيبوا في العراق أو خلال حرب يوليو (تموز) 2006، ضد 11 مصرفاً لبنانياً تتهمها بتقديم خدمات مالية لـ«حزب الله». أما الرابط بين الأمرين فهو إتاحة القانون الأميركي لضحايا الإرهاب الدولي مقاضاة أي طرف ساعد مرتكبي الأفعال الإرهابية، مبقياً باب الاجتهاد مفتوحاً بشكل واسع لتحديد مفهوم «المساعدة» وتقدير حدودها المباشرة وغير المباشرة.

 

ولئن كانت المصارف اللبنانية، بخطابها العلني، تطمئن نفسها إلى أن دعوى مماثلة رفعت عام 2007 ضد خمسة مصارف لبنانية ورفضتها المحاكم الأميركية المعنية في نيويورك، إلا أن ذاكرة المصرفيين تحفظ تجربة البنك العربي، الذي في دعوى مشابهة اضطر لعقد تسوية سرية مع ممثلي نحو 500 مواطن أميركي قالوا إنهم أو أعضاء من عائلاتهم كانوا ضحايا لهجمات «حماس».

 

وقد كشفت تقارير إعلامية مرموقة، في حينها، أن التسوية فاقت المليار دولار، إلا أن البنك العربي اكتفى بالتعليق عليها يومها بأنها «غير دقيقة».

 

الركون إلى الطبيعة المدنية للدعوى المرفوعة على المصارف اللبنانية، لا يلغي المخاطر الحقيقية لتبعاتها في حال قبولها من القضاء الأميركي. القبول بها يتيح للمدعي مطالبة المصارف المراسلة والحكومات بتوفير خريطة هائلة من المعلومات عن المتهمين وروابطهم والعلاقات بين حساباتهم وحسابات آخرين وحركة أموالهم وأنماط الإنفاق ومواقعها… كما أن قبول الدعوى سيشجع دعاوى أخرى متفرعة عنها، تقوم بها هذه المرة شركات محاماة متخصصة في «صيد الديون والتعويضات» كما حصل في الأرجنتين بعد أزمة ديونها.

 

ما نحن أمامه ليس سوى حلقة جديدة من حلقات المواجهة مع الإرهاب الدولي، ومحاولة دؤوبة لتعطيل قدرته على تطويع مؤسسات وآليات وحكومات لخدمة حركته. وهي معركة طويلة شهدت تطورات مهمة في أعقاب جريمة الحادي عشر من سبتمبر واجتياح العراق والمواجهة مع إيران لحرمانها من عائداتها النفطية وضبط تهرب الدول المارقة من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.

 

بعض من قصة هذه الحرب يرويها كتاب «هاربوون» للمحامية نيتسانا دارشان ليتنر والصحافي صامويل كاتز، لا سيما أن شركة المحاماة التابعة للمؤلفة دارشان ليتنر عملت عن قرب على دعاوى مشابهة للدعاوى المرفوعة الآن ضد المصارف اللبنانية وسابقاً ضد البنك العربي، ونجحت في تحصيل أكثر من ملياري دولار لموكليها. كما أنه يشّرح خريطة الحروب المالية أبعد من هذه الدعاوى ومثيلاتها، ليلقي الضوء على مجالات أخرى في الحرب نفسها، بناء على معلومات رُفعت عنها السرية في إسرائيل. هاربوون هو اسم وحدة استخبارات قادها مئير داغان قبل أن يصبح رئيساً للموساد الإسرائيلي، وتهدف لضرب البنية المالية لـ«حزب الله» و«حماس» ومنظمات أخرى، عبر عملية معقدة من جمع المعلومات المالية وداتا الاتصالات وداتا السفر. ويضع الكتاب اغتيال القيادي في «حماس» محمود المبحوح في هذا السياق، واصفاً إياه بأنه أحد كبار القادة الماليين لـ«حماس». كما يكشف الكتاب معلومات مثيرة عن كيفية خداع إسرائيل لصلاح عز الدين، الذي يصفه الكتاب بأنه أحد القادة الماليين لـ«حزب الله»، وتوريطه في استثمارات مصممة سلفاً لأن تؤدي إلى إفلاسه وحرمان «حزب الله» من الأصول والأموال التي كان يديرها عز الدين. كما يروي الكتاب حكاية اختراق إسرائيل للبنك اللبناني الكندي، عبر أحد الموظفين فيه، وتكوين ملف مشابه للدعاوى المرفوعة الآن وسابقاً على مصارف لبنانية وعربية ودولية بتهمة تقديم خدمات مالية لـ«حزب الله»، ما أدى لتذويب البنك عبر عملية دمج مع مصرف سوسيتيه جنرال وتسوية مالية ضخمة.

 

هي حكاية هذا التداخل بين القطاعين العام والخاص وبين المدني والسياسي وبين أميركا كدولة مستقلة وبين أميركا وعملتها كمركز أعصاب النظام المالي والتجاري العالمي، ما ضاعف بما لا يقاس أثر العقوبات المالية والاقتصادية على الإرهاب والدول الراعية له، وجعل من حقل المال مجالاً خصباً لحرب ضروس تدور بأعنف من حرب الصاروخ والطائرة.

 

إنه عالم جديد تلعب فيه شركات المحاماة دوراً غير مسبوق في جر حكومات ودول ومؤسسات دولية إلى هذه الحرب، حتى حين تكون حسابات هؤلاء السياسية غير منسجمة بالضرورة مع حسابات هذه المكاتب ومن تمثلهم ومن يراهنون على نتائج أعمالهم.

 

هي حرب لا يملك فيها الإرهاب ورعاته أية ورقة.