بدأت رياح الإنهيار تضرب القطاع المصرفي، وتهز قواعد إستقراره وإزدهاره، وتنال من الثقة الوطنية والسمعة الدولية، اللتين تفرد بهما مصرف لبنان طوال عقدين ونصف من الزمن، بعدما ضربت عاصفة الأزمة السياسية الراهنة صمود الليرة اللبنانية تجاه الدولار والعملات الأجنبية.
وتفاقمت الأزمة المالية مع إهتزاز الوضع السياسي، وظهور العجز الفادح لدى أهل الحكم في التعامل مع الحراك الوطني الشامل، وإستيعاب أسبابه عبر تسريع الخطوات الإصلاحية وتحقيق بعض المطالب الضرورية الملحة.
ولكن الصدمة الكبيرة التي فاجأت اللبنانيين كانت بوقوف مصرف لبنان موقف المتفرج من تداعيات هذه الأزمة المالية، التي سرعان ما جرفت معها كل قواعد الحماية والصمود للعملة الوطنية، وفجّرت الغضب الشعبي على تدني سعر صرف الليرة، وعلى ظهور السوق السوداء للدولار والعملات الأجنبية، لأول مرة في تاريخ دولة الإستقلال.
وجاءت التدابير التي إتخذتها المصارف وأدّت عملياً إلى إحتجاز أموال المودعين، وتنفيذ «مراقبة الرساميل»، وتخفيض سقوف السحب إلى الحد الأدنى، وتجميد معظم العمليات المصرفية الأخرى، لتزيد الغضب الشعبي اشتعالاً، بعدما وصلت الإجراءات التعسفية إلى لقمة عيش الناس، خاصة أصحاب الدخل المحدود، وصغار المودعين الذين أودعوا تعويضات نهاية الخدمة، و«جنى العمر» في المصارف، ليضمنوا تمضية ما تبقى من حياتهم، دون عوز أو فاقة، أو سؤال الحاجة من الآخرين.
ويبدو أن عدوى الضياع والعجز التي ضربت مواقع القرار السياسي، وتسببت في تمديد الأزمة السياسية وتعقيدات ولادة الحكومة العتيدة، قد انتقلت، بقدرة قادر، إلى مصرف لبنان الذي تأخر في التحرك لإستيعاب مضاعفات التوتر السياسي، وترك سير الأمور على غاربها للمصارف، التي وجدت نفسها بمواجهة مع زبائنها المتهافتين على سحب ودائعهم، بعد الانخفاض السريع الذي أصاب الليرة، وإنتشار إشاعات عدم توفر السيولة، بعد الشح المفاجئ لوجود الدولار في الأسواق المالية.
وهنا تبرز علامات استفهام كبيرة، ما زالت تبحث عن الأجوبة والمبررات المقنعة:
١- لماذا سكت مصرف لبنان عن إقفال البنوك الصادم لمدة أسبوعين، والذي تسبب بمضاعفة الخوف والقلق عند المودعين فتهافتوا لسحب ودائعهم فور فتح أبواب المصارف؟
٢- كيف تفردت إدارات المصارف باتخاذ تدابير تخفيض سقوف السحب، وتطبيق نظام «Capitale controle»، دون أي مسوغ قانوني، وخلافاً لبنود قانون النقد والصرف؟
٣ – لماذا يتغاضى مصرف لبنان عن التلاعب بسعر صرف الليرة لدى الصرافين، والذي تجاوز الألفي ليرة في السوق السوداء، وهو الذي حدد سعر الصرف في المصارف بـ١٥١٥ ليرة للدولار الواحد، وأجبر جميع المتعاملين مع المصارف على تطبيق هذه التعرفة، وتحمل الفروقات بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء؟
٤ – البنك المركزي هو الجهة المعنية بإصدار تراخيص العمل للصرافين، ومراقبة أعمالهم وفق القوانين المرعية، فماذا يعني سكوت الإدارات المعنية في المركزي عن مخالفات الصرافين للتسعيرة الرسمية، عوض العمل بصرامة على فرض التقيد بالسعر الرسمي تحت طائلة سحب ترخيص كل مخالف؟
٥ – هل يُسمح لكل إدارة رسمية بتحديد سعر الصرف المناسب لها، كما هو حاصل حالياً في المنطقة الحرة بالمطار حيث تم اعتماد سعر ثالث لصرف الدولار بـ١٧٥٠ ليرة، بعد سعر المصارف ١٥١٥، وسعر الصرافين بما يتراوح بين ٢٠٠٠ و٢٢٠٠ حتى اليوم، والتسعير ما زال مفتوحاً على مزيد من الارتفاع.
وماذا لو قررت إدارة الجمارك إعتماد تسعيرة رابعة للدولار في استيفاء الرسوم على البضائع المستوردة بالعملات الأجنبية بحدود ١٩٠٠ ليرة مثلاً؟
٦ – من أين يحصل الصرافون على الدولار؟ وهل يتابع البنك المركزي، والجهة القضائية المعنية، ما يتردد عن وجود «تواطؤ» بين بعض الصرافين ومسؤولين في أكثر من مصرف لتبادل المنافع في تجارة السوق السوداء؟
وفيما الأجوبة الواضحة والشفافة ما زالت في عالم الغيب، فالوضع النقدي مرشح لمزيد من الفوضى والانهيار!
وقيام عدد من المتظاهرين باقتحام عدد من الفروع المصرفية أمس في بيروت وطرابلس، يُعد تصعيداً جدياً وخطيراً في تعامل الناس مع المصارف، فضلاً عن الاشتباكات شبه اليومية التي تحصل داخل الفروع المصرفية بين الزبائن والموظفين، والتي تضاعف أزمة الثقة بين المصرف وزبائنه، وتزيد أجواء التوتر والكراهية بين الطرفين.
النظام المصرفي اللبناني، المتميز بأدائه الحرفي، وتطوره وفق أحدث النظم العالمية، كان حتى الأمس القريب، خط الدفاع الأخير عن الإقتصاد الوطني، وعن مالية الدولة المتعثرة… فأصبح اليوم في قلب المحنة الوطنية والسياسية التي تهدد النظام اللبناني برمته!
فهل يستعيد حاكم مصرف لبنان المبادرة، ويتحرك لوضع حد لفوضى سعر صرف الدولار، كخطوة أولى لإعادة التوازن إلى الأسواق المالية؟