منذ أيام تراجعت الأسواق المالية في الولايات المتحدة بشكل حاد وعنيف، كانت له آثار سلبية وفورية على الأسواق المالية حول العالم. ويشير المحللون والخبراء في تقييمهم لما حصل إلى أن السبب الأساسي كان رفع البنك الفيدرالي نسبة الفائدة، مما عني فرصة استثمارية أفضل للودائع الدولارية، ورفع تكلفة الإقراض للأعمال وبالتالي سيحصل «بطء متوقَّع» في نسب النمو لنتائج الشركات، ولكن الأمر له أبعاد أهم وأعمق بكثير.
الدولار الأميركي يعد أهم الأسلحة الرئيسية في «الترسانة» المتنوعة لأميركا، وبالتالي أميركا حريصة كل الحرص على إغراق العالم بعملتها لتوفيرها بكثافة شديدة لتكون بحكم الأمر الواقع العملة الأولى والأساسية للتبادل التجاري في العالم. أميركا قامت «بإضعاف» العملة اليابانية إبان صعودها الصاروخي مع قوة الاقتصاد الياباني الأسطورية في حقبة الثمانينات الميلادية الماضية. وفي سنة 1999 دشن الاتحاد الأوروبي عملته الجديدة «اليورو»، فدخل فوراً كمنافس جاد للدولار الأميركي، ومباشرةً بدأ في اكتساب حصص فعالة ومؤثرة من احتياطيات الدول من العملات الصعبة، وبات جزءاً من حراك التجارة والاقتصاد وتبادل الأعمال، فمثلاً لو قامت روسيا بشراء حاملة مروحيات من فرنسا، وباعت غاز لبلجيكا فكل هذه العمليات سيتم سدادها باليورو، كل هذه النوعية من الأعمال المتصاعدة تبقى «خارج» منظومة الدولار الأميركي، وهو تماماً الذي يفسّر شهية الرئيس دونالد ترمب الكبيرة لتفكيك الاتحاد الأوروبي حتى يعود الدولار العملة الأقوى في التعامل البيني.
حسب آخر إحصائية متوفرة من البنك المركزي الأوروبي، فإن أكثر من ثلثي ديون العالم بالدولار الأميركي، ونفس النسبة بالنسبة إلى الودائع العالمية. الذهب والنفط يسعَّران بالدولار، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السلع الرئيسية التي يتم تداولها في الأسواق العالمية. عندما يتم خطف أحد كرهينة تُطلب الفدية بالدولار، حتى الدول المارقة مثل إيران وكوريا الشمالية والتنظيمات الإرهابية مثل «داعش» و«حزب الله» و«القاعدة» تتعامل بالدولار، مما يعني أن البقاء على قوة الدولار كعملة العالم الأولى والرئيسية هو هدف استراتيجي، وجزء من منظومة الأمن القومي الأميركي. ولكن هناك «قوى» متزايدة ترفض استمرار هيمنة الدولار خصوصاً في الدول المؤثرة.
جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، صرح مؤخراً بأنه ضربٌ من الجنون أن تشتري الدول الأوروبية طائرات أوروبية بالعملة الأميركية بدلاً من السداد باليورو. في شهر مارس (آذار) تحدّت الصين الأسواق بتسعير مستقبلي لصفقة نفطية بعملتها اليوان، وقامت روسيا بتخفيض موجوداتها الدولارية هذا العام بشكل مفاجئ. وصرح وزير المالية الفرنسي بأنه يريد أداة تمويل بعيدة ومستقلة تماماً عن الدولار، ومعروف أنه توجد جهود مضنية بين روسيا والصين لإيجاد تسعير لكل عملياتهما التجارية بينهما بعملات البلدين حصراً.
أيضاً سياسة ترمب الإقصائية والبعيدة عن خط العولمة الاندماجي أضعفت الاعتماد على الدولار، الأمر الذي تسبب بأن استيقظت الإدارة الأميركية ذات يوم مفزوعة عندما علمت أن عملة الصين اليوان أصبحت ثاني أهم عملة في المكسيك، وهي «المحسوبة» على الاقتصاد الأميركي، وهي المسألة التي سرّعت بطلب أميركا إعادة صياغة اتفافية «نافتا» مع المكسيك لتصبح لصالح أميركا بشكل أوضح.
هناك خطوط حمراء بالنسبة إلى أميركا تجعل مسألة الاستغناء عن الدولار خطاً أحمر، ولكن التغيير الحاصل في مراكز الاقتصاد العالمية في أميركا والصين وأوروبا وروسيا سيشهد تغييراً في مساحات الممكن والمقبول والمسموح به. الدولار هو أهم أسلحة أميركا وستستمر في ضخه بشكل هائل لتثبت أنه الواقع المفروض ولا يمكن تغييره.
هل يستمر الوضع على ما هو عليه؟ سؤال مفتوح ينتظر الإجابة.