IMLebanon

واجب المسلمين… الحفاظ على التعدّد

«من راكع ويداه آنستاه أن ليس يبقى الباب موصودا

أنا أينما صلى الأنام رأت عيناي السما تفتّحت جودا» (سعيد عقل)

عناد مسيحيّي الشرق لم يُثنهم يوماً عن التشبّث بوجودهم في هذه البقعة البائسة من الأرض، اعتصموا في الجبال وبين الصخور، وقاوَموا كلّ محاولات مَحو وجودهم، ورفضوا الاستسلام والتسليم أمام موجات الأكثريات والأقليات التي حاولت دفعهم لهجرة تاريخهم وهجرة الأرض التي حَمت حرّيتهم. لقد بقوا جزءاً من الشرق وأساطيره وهواجسه، ولم يتوقفوا عن البحث عن قواسم مشتركة مع شركائهم في الأرض من خلال تسويات تحافظ على خصوصيتهم في مجتمع تعدّدي…

صديقي جميل مسيحي ماروني متديّن، كنتُ أجلس معه الى الطاولة نفسها أيام الدراسة، مع أنّ السياسة فرّقت أفكارنا، فهو كان ينتمي الى «حزب الكتائب» كتقليدٍ عائلي، أمّا أنا فقد كنتُ أنسبُ نفسي الى اليسار العروبي الحائِر بين الأممية والقومية. كنتُ أختلف مع صديقي دائماً في السياسة، لكننا كنّا نبني الخيمة معاً في رحلات الكشّافة، وكنّا ننام غالباً متجاورَين.

هَجر جميل مع عائلته في بداية حرب 1975، بعد أن أحرق «المناضلون» متجر والده وسيارته في الوسط التجاري لمدينة طرابلس، وهُجّر يومها، مع هذه العائلة، المئات من العائلات، خوفاً من الجنون الذي بدأ يضرب بشكل عشوائي، وكان قد هُجّر مسلمون من مناطق ذات غالبية مسيحية.

صديقي جميل ضاق ذرعاً بالحرب الأهلية، ولكنه أيضاً لم يكن قادراً على دفع تكاليف إكمال دراسته في الخارج، طلب منحة من «مؤسسة الحريري»، فحصل عليها وسافر الى الولايات المتحدة الأميركية حيث نال شهادة في الهندسة وأصبح يعمل في وكالة الفضاء الأميركية.

لم تنتهِ قصة جميل هنا، فبعد خلاف مع زوجته الأميركية، ومع أنّ اسمه كان قد تحوّل الى «جيمي»، فوجئ بقوّة من «FBI» تطوّق منزله، لأنه، حسب رواية زوجته، كان يحتفظ بأسلحة «قد تكون لمصلحة تنظيم القاعدة». وفي حفلة الجنون التي اجتاحت الولايات المتحدة الأميركية، تعرّض صديقي لشتى أنواع «البَهدلة»، الى أن اكتشفت السلطات أنّ الوشاية كانت فقط من صُنع نَسوي.

معنى الهويّة

هذا نموذج من معاناة المسيحيّين المشرقيّين، فالشرق المسلم يعتبرهم رعايا غربيّين، والغرب المسيحي يعتبرهم عرباً، وبالتالي يحملون اللعنة نفسها حتى ولَو كانوا مسيحيّين. في ظلّ كل ذلك يجد المسيحيون العرب أنفسهم اليوم في أرض التيه يتنازَعهم حنين الى وطن بات يُنذرهم بكلّ أشكال الإرهاب من جهة، ورُهاب من الوحدة والغربة في بلاد ستظلّ تعتبرهم غرباء لعدة أجيال من جهة أخرى.

واليوم، تأتي الجرائم التي تطال الوجود المسيحي لتزيد في حيرة المسيحي المشرقي أو قد تدفعه الى أخذ الخيارات الصعبة، بتَرك مجتمع أصبح غير قادر على تأمين الحماية لوجوده، إمّا بالتواطؤ المباشر أو بالتجاهل، وهو بالمحصّلة نَوع من المشاركة في الجريمة.

تجاهل المعتدلين

إنّ هذا التجاهل المريب الذي واجه به المسلمون العرب الحملة الإرهابية على الحريات الدينية طالَ اليوم مع «داعش» وأخواتها حريتهم كمسلمين متحرّرين، وهذا ما سيجعلهم عبيداً لمنطق العصور المظلمة والنفوس الغارقة في حقد عشوائي سقط بنتيجته الملايين من المسلمين قبل المسيحيين، ولا يزال الواقع الذي يعيشه العراق وسوريا ولبنان اليوم مثلاً حياً على أنّ هذا الإرهاب، متى تُرِك ليتمادى، سينقضّ عاجلاً أم آجلاً على أهل البيت ليَقضي على كلّ أثر للحريات الشخصيات ليسود منطق محاكم التفتيش على بلداننا.

النموذج اللبناني

وهنا أيضاً تكمن الحاجة الى المحافظة، لا بل الى تنمية النموذج اللبناني في التقاء المسيحية مع الإسلام في جوّ من الحرية وقبول الآخر الذي جعل من الطبيعي أن نجد الآلاف من المسلمين اللبنانيين يشاركون المسيحيين في لبنان والعالم في مناسباتهم الدينية والاجتماعية ويَتشاركون في الآمال والمستقبل…

إنّ معظم المسلمين في لبنان يدركون اليوم أنّ جوهر وجود لبنان هو وجود المسيحي الحرّ الفاعل، وأنّ التنوّع الديني أعطى فرصة للمسيحيين والمسلمين للإفادة من الثقافة التعددية، وهي السلاح الأقوى، وربما الوحيد، في مواجهة الحقد والتعصب. هذه المبادئ ليست لطروحات طوباوية، لأنّ تواجد المسلم اللبناني في دولة تعددية وديموقراطية هو ما انتشلَ المسلم اللبناني من الغرق في بحر الظلمات السياسية والعقائدية التي تحيط به.

في ظلّ كل هذه التحديات يجب أن يبرز دور المعتدلين المسلمين على رغم الصعوبات القائمة في ظل إمكانية اتهامهم بالردة و»الأمرَكة» في حال انتهجوا خطاباً ليبرالياً لمواجهة التطرّف. ولكنّ الواقع هو أن مسؤولية الحفاظ على الوجود المسيحي تقع على هؤلاء بشكل أساس من خلال المجاهرة الواضحة برَفض المنطق الذي يريد أن يفرضه أصحاب العصور المظلمة، وإلّا فإنّ دورهم كضحايا سيكون التالي على لائحة الإرهاب.