ربما وبشكل أسرع من المتوقع دخل لبنان في منعطف جديد تغيّرت معه حياة الناس وعاداتها رأساً على عقب. فبين ليلة وضحاها، أصبحت الحياة أكثر صعوبة وقسوة والعملة نفدت من أيدي الناس وجيوبها.
أوضاع إنسانية واقتصادية صعبة تعيشها العائلات. فجأة أصبح الفقر يدهم كل البيوت، ومن دون سابق إنذار صار الفقير أكثر فقراً وحتى الغني بدأ يحسب ألف حساب للأوضاع، وسط تزايد البطالة وانعدام القدرة الشرائية لدى الناس، إرتفاع الأسعار والغلاء الذي طاول كل شيء تحتاجه الناس في معيشتها.
في عكار عائلات كثيرة تعيش بما تيسّر نتيجة ارتفاع أسعار السلع اليومية والمواد الغذائية بنسبة 50% مع الأزمة الإقتصادية التي تعيشها البلاد، وعائلات فقدت مداخيلها بسبب الصرف التعسفي والإقفال الحاصل للمؤسسات. إزاء هذا الواقع، برزت عودة قسرية إلى الأرض لزراعتها بما تأمّن من الشتول والإستفادة منها، مهما كانت مساحة هذه الأرض صغيرة أم كبيرة حتى لو كانت (عزوقة) صغيرة كما تسمى بدارجة المنطقة. وذلك بهدف الإستعمال الشخصي وليس لأي هدف تجاري. إنها أزمة حقيقية يقول العارفون بالبلد وكبار السن “إن الغلاء هذه الأيام أشبه بما كان يحصل زمن الحروب عندما كانت الناس تخبئ أكياس الطحين والعدس والسكر وغيرها، خوفاً من الجوع”.
تقول الحاجة أم أدهم وهي أم لستة أولاد: “الخضار أغلى من اللحم للأسف وكل بيت بحاجة اليها، وإذا أردت أن تؤمّن كل حاجات بيتك فأنت بحاجة كل يومين إلى 50 ألف ليرة هذا عند العائلات الصغيرة أو المتوسطة، فكيف إذا كانت عائلة كبيرة”. وتتابع: “سعر الخسة الواحدة اليوم في السوق 2000 ليرة وكيلو البندورة 2500 ليرة، كلشي صاير نار،هذه أسعار لم نعرف مثلها على وعينا. فكيف يستطيع الفقير أن يعيش؟ لم يعد أمامنا سوى العودة إلى أيام زمان نزرع نحن هذه الشتول أمام البيت ونأكل مما نزرع، لأنه لم تعد هناك إمكانية لشراء كل هذه الإحتياجات في مثل هذه الظروف العصيبة”.
أسعار الألبان والأجبان وكذلك البيض هي إلى ارتفاع مطرد. وهذه مواد أساسية، وفي هذا الإطار برزت عودة لدى العديد من العائلات، إلى تربية الأبقار والدجاج بالقرب من المنازل. حيث يصنعون لها بيوتاً من الخشب مسقوفة بألواح إلى جانب المنازل، بهدف الإستهلاك الشخصي وتوفير ما أمكن من مصاريف في هذه الأوضاع الراهنة.
في قرية الحويش العكارية يقول الشيخ حسن الأكومي: “بدأنا نتلمّس عودة الأهالي إلى حياة الأرض بشكل أكبر. ونحن نحث الناس على ذلك أيضاً، بسبب الغلاء من جهة ولتحقيق اكتفاء ذاتي بأقل التكاليف من جهة أخرى. ولقد بدأ الناس بزراعة الحبوب والشتول والخضار وهذا ما نراه يحصل بشكل واسع. ونحن بدورنا أمّنا للنساء مشروعاً لزراعة الزعتر وتعمل المرأة مع الرجل والطفل فيه، لتوفير ما أمكن على الناس من عناء المعيشة وشراء هذه الخضار التي أصبحت غالية تفوق القدرة والإمكانات لهذه العائلات”.
وتشهد الأراضي والبساتين، لا سيما بساتين الزيتون هذه الأيام، هجمة غير مسبوقة وأكثر من أي وقت مضى، على موسم “السليق”، وهي النباتات أو الحشائش التي تنبت في الأرض من دون زراعة ويعزز المطر في الشتاء من تكاثرها، مثل (الهندبة – الكرات- البلغصون…) وغيرها من الأعشاب البرية. وحيث تسرح النساء بالأراضي لقطافها، وهي نباتات ذات فوائد غذائية وصحية والأهم من ذلك كله أنها مجانية ولا تكلّف شيئاً. جديد تلك الظاهرة أن الرجال يسرحون أيضاً بالأراضي من أجل جمع (السليق) لهم ولعيالهم. الأزمة المعيشية أيضاً والممتدة إلى المازوت والغاز، فثمة نقص بهاتين المادتين وعند تأمينهما تصبح أسعارهما أغلى بكثير من السابق. هنا راح الناس يلجأون إلى التدفئة بالحطب بشكل أكبر وحلّت مدافئ “صوبيات” الحطب مكان المازوت لدى الكثيرين. كما أن الحطب أيضاً أصبح موقدة لدى نساء عدّة، يقمن بطهي الطعام عليه خارج المنزل توفيراً للغاز الذي أصبح تأمينه مشقة.
وعادت إلى الواجهة أيضاً صناعة الخبز الصاج على الحطب بعد أن لجأ العديد من العائلات لشراء أكياس الطحين الكبيرة للتوفير. في هذا الصدد يشير خالد الرفاعي وهو رب عائلة من بلدة القرقف في عكّار إلى أنّ “العودة إلى الطبيعة جميلة رغم أننا عدنا إليها بقوة مرغمين، بسبب الأزمة الإقتصادية والإجتماعية والبطالة. هناك أيضاً رجال يجمعون (السليق) للبيع أو يربّون الدجاج لبيع البيض، لتأمين معيشتهم أو حتى التوفير في الإستعمال الشخصي. ثم إن فقدان مادتي الغاز والمازوت من الأسواق، جعل الناس تلجأ بشكل أكبر إلى الحطب في معظم استعمالاتهم”.
إنها عودة قسرية إلى الزراعة فرضتها الوقائع والمستجدات على الأرض، لكنها عودة قد تكون مفيدة صحياً للجسم تعوّض الأسى والمصاعب الحياتية التي تعيشها الناس.