لبنان مجدداً تحت المجهر الدولي. قبل أشهر بَدا البلد وحيداً، أقلّه في الظاهر، يوم تُرك ليواجه مصيره الصعب اقتصادياً واجتماعياً، وبطبيعة الحال سياسياً، منذ أن دخل في مرحلة الفوضى السابقة للانهيار أو المرافقة له.
قلّة تَنبّهت بعد 17 تشرين الأول الى أنّ المقاربة الدولية للملف اللبناني سارت وفق منطق نابوليون بونابرت القائل إنّ أفضل وسيلة لإلحاق الهزيمة بالعدو هي أن تتركه يختنق، وهذا بالضبط ما انتهجَته دول مثل الولايات المتحدة والسعودية، في حين أنّ دولاً مثل فرنسا وايران حاولت ان تتحرك بمستويات مختلفة انطلاقاً من حقيقة أنّ بقاء لبنان يمثّل مصلحة استراتيجية، بينما دول مثل روسيا والصين اختارت ان تحيد نفسها مرحلياً عن الصداع اللبناني الى أن تتّضِح الصورة اكثر فأكثر.
اليوم تقترب هذه المقاربات من خواتيمها، بعدما حقق بعضها أهدافها المتعددة. وبالتالي، يمكن افتراض أنّ مرحلة جديدة قد بدأت باندفاعة غربية بالدرجة الأولى، عنوانها المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
المعادلة التي تحملها المفاوضات التي دخل فيها لبنان مع صندوق النقد تبدو بسيطة للغاية برغم تعقيداتها التقنية: إمّا الالتزام بالشروط المالية والاصلاحية، وإمّا فليترك البلد لمصيره، او بمعنى أدق فليسلك الانهيار مَساره.
ليست الفاتورة هنا اقتصادية فحسب، ولا هي مجرد آليات تقنية بحتة تحت عناوين عريضة من قبيل الاصلاح الاداري ومكافحة الفساد وتثبيت قواعد الحوكمة وإعادة هيكلة القطاعين المالي والمصرفي وتحرير سعر صرف الليرة اللبنانية وضبط التهريب عبر الحدود، بل هي مَسار تتضافر فيه الفاتورة الاقتصادية مع الفاتورة السياسية التي بدأ الخارج يعدّ العدّة لتحصيلها، ما يجعل لبنان مجدداً ساحة لاشتباك إقليمي – دولي سلاحه هذه المرّة المال.
يمكن استشراف ذلك في العديد من المؤشرات، أبرزها اثنان: الموقف الأميركي تجاه ما يجري في لبنان، والتحرّك السعودي الجديد باتجاه آل الحريري.
بيت القصيد في موقف الولايات المتحدة من الأزمة الحالية يتمثّل في سلسلة المواقف التي أطلقها المسؤولون الأميركيون في الفترة الأخيرة، وعلى رأسهم ديفيد شينكر، رأس حربة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، والتي يمكن اختزالها بعنصرين أساسيين. أوّلهما أنّ العقوبات الأميركية باقية وتتمدّد طالما أنها لا تزال تؤدي إلى مجموعة من الأهداف المتصلة بالتضييق على «حزب الله»، وثانيهما أنّ المساعدة الدولية للبنان لا بد أن تمرّ من باب «الإصلاحات»، مع أنّ هناك من يرى أنها تتجاوز الشق الإداري والمالي لتطال الكثير من المسائل الحساسة، والمتصلة خصوصاً بالصراع مع إسرائيل.
هذا ما يُفسّر على سبيل المثال الأسباب الكامنة وراء إثارة قضايا «ملحّة» من قبيل المعابر غير الشرعية بالشكل الذي شَهدته الأيام القليلة الماضية، التي يُستشفّ منها مَسعى لقطع طريق الامداد لـ»حزب الله»، أو عودة الحديث عن ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، باعتبارها من الشروط المعلنة صراحةً وخلف الكواليس لتأمين الغطاء الأميركي لأيّ دعم دولي للبنان.
يمكن في هذا الإطار سَرد الكثير من الفواتير السياسية التي تنطوي عليها المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، بما يشمل فرض المزيد من الضرائب، ووقف التوظيفات في الدولة، وتسريح موظفين، وما إلى ذلك من إجراءات من شأنها أن تقوّض العلاقات المجتمعية بين القوى السياسية، وفي القلب منها المقاومة، وحاضناتها الشعبية.
هذا ما يفسّر الموقف الصادر عن «حزب الله» بشأن التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وفي جوهره ما عبّر عنه أمينه العام السيد حسن نصرالله حين رفض «تسليم رقبة البلد» إلى الصندوق.
هذا الموقف ينطلق من خلفية واضحة، وهي أنّ ما جرى في لبنان خلال الفترة الماضية كان نتاج «اشتباكين»، هما كناية عن اشتباك ظاهره داخلي محلي، إلّا أنّ باطنه هو اشتباك خارجي، لتصفية الحسابات مع «حزب الله»، من خلال الحرب الاقتصادية، بعد سلسلة المتغيّرات الميدانية التي جعلته في صلب المعادلة الإقليمية
لا يمكن فصل ما سبق عن محاولات بعض القوى الخارجية، والعربية تحديداً، للانخراط مجدداً في الاشتباك الداخلي، بعد فترة استكانة، وإعادة استحضار ورقة بهاء الحريري مرّة أخرى – بعد محاولة أولى في أعقاب أزمة احتجاز سعد الحريري في الرياض في أيلول العام 2017 – في محاولة جديدة لفرض معادلات جديدة، جوهرها الضغط المباشر وتضييق الخناق على رئيس الحكومة السابق لإحراجه فإخراجه.
وبرغم التحرّك السعودي الأخير تجاه سعد الحريري، والذي يبدو أقرب إلى سياسة العصا والجزرة، فرئيس الحكومة السابق المحاصر بمنافسيه في «تيار المستقبل» من جهة، والفاقد طوعاً لمنصب الرئاسة الثانية في لبنان من جهة ثانية، والذي يواجه مصاعب مالية من جهة ثالثة، يبدو بنظر القائمين على شؤون السياسة الخارجية في الرياض الحلقة الأضعف التي يمكن من خلالها النفاذ مجدداً إلى الساحة اللبنانية.
هكذا يجد سعد الحريري نفسه أمام خيار من اثنين، فإمّا الرضوخ، وإمّا فالبديل جاهز، وهذه المرة من قلب العائلة الحريرية نفسها، ومن خلال شخص يعتقد من هم خلفه انه يمكن أن يحمل إرث رفيق الحريري، ويتمتع بحاضنة خارجية (أميركية خليجية) وداخلية (الشارع السني المتفقّد للزعامة، ومنافسو سعد الحريري داخل تيار المستقبل)، لكي يتصدر مشهد المواجهة مع «حزب الله»، وبطبيعة الحال مع ايران.
كل ما سبق يَشي بأنّ الانقاذ الاقتصادي وفق المقاربات الطوباوية التي تسيّر حكومة حسان دياب سيكون تحقيقه أكثر صعوبة في ظل المتغيرات الخارجية، التي تنذر باشتباك جديد، ناهيك عن الاشتباك الداخلي الذي يبلغ حالياً مستوى غير مسبوق تتقاطَع عنده صراعات ما قبل 17 تشرين الأول والوقائع التي فرضت نفسها بعد هذا التاريخ.
وإذا كان الاشتباك ببُعده الخارجي يُضفي تعقيدات جوهرية على الخطة الاقتصادية، فإنّ الاشتباك الداخلي يفرض إيقاعاً أكثر خطورة على المشهد، آخذاً في الحسبان أنّ الخطة نفسها قائمة على مبدأ محاربة الفساد واسترداد المال المنهوب.
ولعلّ ما كشفت عنه وقائع الأيام الماضية في هذا الإطار لا يحمل أية بشائر خَير، سواء تعلّق الأمر بفضيحة الصيارفة، التي تقترب التحقيقات فيها من قَطع الشك باليقين في أنّ التلاعب بسعر الصرف يتقاطع عند أجندات سياسية، أو في فضيحة الفيول المغشوش، التي بدأت تطغى عليها الصراعات السياسية بكل أبعادها الشعبوية والزبائنية، وقبلها أزمة حاكم مصرف لبنان، التي تكشف بعضاً من كواليسها ذلك الشكل المفضوح من تَصارع المصالح السياسية، وتقاطعها في آنٍ واحد.
كل ذلك، يجعل الآمال التي عُلّقت على ما وُصِف بأنه أول خطة اقتصادية في لبنان عرضة للتبدّد في خضمّ التراكمات والترسّبات التي تراكمت طوال الأعوام الثلاثين الماضية، والتي تقترب معها فرص الخروج من الأزمة الحالية إلى أن تصبح مجرّد آمال غير واقعية سرعان ما ستولّد انفجاراً سياسياً وشعبياً في آنٍ واحد، لا يحتاج المرء لاستشكافه سوى رصد سريع لحالة الشارع الذي بات منذ فترة ناراً مشتعلة تحت رماد أخمَدته قليلاً إجراءات العزل الكورونية.