IMLebanon

«أثر الفراشات الصفراء» على العرب

 

ربما يتمكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من تجاوز أزمة السترات الصفراء. ربما يعبر الجسر باتجاه منطقة أقل اضطراباً وضجيجاً. صحيح أن قدرته وقدرة حكومة إدوار فيليب على التحرك داخلياً أصبحت في الحدود الدنيا، وصحيح أن مشروعه الاقتصادي الكبير دخل دائرة الشك والمراجعة، إلا أن مستقبل الرجل السياسي كما يبدو «مرّ» من عنق الزجاجة! لكن السؤال يبقى: كيف سيمضي الرئيس باقي فترته الرئاسية؟ وما هو انعكاس الأزمة الفرنسية الأخيرة على المحيطين الأوروبي والعربي؟

 

من المؤكد أن الرئيس الشاب المتحمس الطموح قبل 17 شباط (نوفمبر) الماضي، لن يعود كما كان بعد هذا التاريخ، فالتفويض الذي كان في حوزته بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، لم يعد (هو هو) بعد خروج ذوي السترات الصفراء إلى الشوارع مطالبين برحيله! يقول الأميركيون إن رئيسهم يتحول إلى «بطة عرجاء» في السنة الأخيرة لولايته الرئاسية الأخيرة. ماكرون يبدو أنه صار «بطة عرجاء» أيضاً، وسيقضي ما تبقى له في فترته الرئاسية في محاولات يائسة لإثبات أنه ليس «بطة عرجاء» من جهة، ومن جهة أخرى سيستنزف طاقته في ترقيع المشهد الاجتماعي والاقتصادي الفرنسي بالمهدئات والمسكنات كي لا تتطور الأمور أكثر، وصولاً إلى حل البرلمان وإقالة الرئيس! ما حصل في فرنسا خلال الشهر الماضي يمكن اختصاره في ثلاث جمل: ماكرون يفوز بالصمود وذوو السترات الصفراء يخسرون معركة إقالته. وماكرون يخسر صلاحياته الكبيرة وذوو السترات ينتصرون بتقييده. وفرنسا تمضي وحيدة منكسرة وتدخل منطقة رمادية ربما لا تخرج منها في السنوات القليلة المقبلة.

 

مشكلة إيمانويل ماكرون أنه تجاوز المشهد الفرنسي كثيراً خلال الأشهر الماضية، وانطلق راكضاً في الساحات الدولية بلا خطوط ضبط أو دوائر تحكم، وبدلاً من العمل من الداخل وصولاً للخارج كما كانت تفعل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل طيلة السنوات القليلة الماضية، راح الرجل يشتغل على أكثر من ملف عالمي ظناً منه أن قوة فرنسا الاقتصادية يمكن بناؤها من الخارج! تعامى الرجل عن الانحدار المخيف للواقع الاقتصادي الفرنسي، وانشغل بربط نظرياته الاقتصادية الكبيرة والطموحة بملفات عالمية معقدة، وعندما تأخر الفصل في هذه الملفات المليئة بالكعك المحلّى، خرجت «فرنسا الصفراء» تبحث عن قطعة خبز!

 

ما بناه الرؤساء ديستان وميتران وشيراك خلال سنوات طويلة قوضه ساركوزي وماكرون خلال سنوات قليلة. كانت فرنسا بعد جورج بومبيدو تعمل بعقلية الدولة الأوروبية الكبيرة، لكنها في الوقت نفسه كانت تحترم حجمها عالمياً. اشتغلت دولة السبعينات والثمانينات والتسعينات على صناعة بنية داخلية قوية، وتشكيل هوية وطنية متفردة، وكانت عندما تريد أن تستدرج المواقف الدولية لتستنفع من ورائها، ترسل فرنسا المثقفة لتقوم بهذا الدور! كانت فرنسا دولة متوسطية كبيرة وذات تأثير ثقافي عالمي واسع، حتى جاء ساركوزي فأراد لها أن تلبس قبعة الكاوبوي وتدخل مخطوطها الثقافي في الخزانة المحلية! لكن هل بوسع الفرنسيين أن يكونوا عالميين بعيدا عن متاحفهم ولغتهم؟!

 

فرنسا اليوم تعاني نتيجة لأسباب عدة، ربما يقف على رأسها إهمال المحلي في مقابل العالمي كما ذكرت، لكن هناك أيضاً درزينة من العوامل التي ربما تستعصي على الحل في حال قرر الفرنسيون بالفعل العودة لفرنسا ديستان وميتران. فرنسا اليوم جزء أصيل من الاتحاد الأوروبي الذي هو ليس في أفضل حالاته اقتصاديا باستثناء ألمانيا، وهذا يجعلني أشك في تعافي فرنسا في السنوات القليلة المقبلة الأمر الذي قد يأخذ أوروبا إلى مناطق أكثر قتامة من رماديتها الحالية.

 

 

فرنسا لا تستطيع أن تواصل الدور العالمي نفسه في المستقبل القريب، وفي الوقت نفسه لن تستطيع «البطة العرجاء» أن تبني فرنسا من الداخل من جديد، وهذا ما سيخلق ربما حضوراً فرنسياً بنفسٍ استعماري على بعض أجزاء الخريطة العربية.

 

أوروبا تعيش منذ سنوات أوضاعاً اقتصادية صعبة جداً، وأظن أن ساستها في كل دولة على حدة أو في الاتحاد الأوروبي وبخاصة «فيديريكا موغريني» التي اختيرت بعناية لمنصب المنسقة الخارجية للاتحاد كونها تحمل الدكتوراه في «الإسلام السياسي»، يضعون خريطة الوطن العربي أمام أعينهم كلما فكروا في حل جديد لإنقاذ القارة العجوز من الانهيار الاقتصادي الذي قد يلحقه انهيارات على مستويات عدة.

 

ماذا علينا أن نفعل كعرب، وكخليجيين على وجه الخصوص؟! علينا أن ندرس من الآن وضع أوروبا في السنوات العشرين المقبلة، وعلينا أن نضع الحلول المناسبة لتجاوز ما يمكن أن يكون أكبر أزمة في الألفية الجديدة. علينا أن نبدأ من اليوم في دراسة التحديات الدولية لتحويلها إلى فرص. إذا لم نبدأ من اليوم في مواجهة «أثر الفراشات الصفراء»، فلن نتمكن بأي حال من الأحوال في الاستفادة من هذه التحولات العالمية في المستقبل، لأننا حينها سنكون مشغولين في مكافحة النار بالنار فقط.

 

* كاتب سعودي.