الحرارة الانتخابية المرتفعة، بنت الواقع السياسي المحكوم لقانون الصوت التفضيلي الذي حار القوم في وصفه، حتى الحلفاء منهم، فالرئيس تمام سلام وصفه بالبشع، لأنه حوّل الحلفاء الى خصوم، وبيروت الواحدة الى بيروتين، بينما وصفته القناة البرتقالية بالتاريخي ربما لأنه حدّ من تداخل اللبنانيين، وحبس كل طائفة أو مذهب، ضمن حدوده المسيّجة بالتزمّت.
والانحباس، ليس أقلّ ضررا من التداخل والتعايش وحتى الانفلاش، وشواهد التاريخ اللبناني الانتخابي ما زالت في البال.
لكن المشكلة ليست في تحويل أعضاء اللائحة الواحدة الى حلفاء الداء، وحسب، انما أيضا في تحويل الاستحقاق الانتخابي الى موسم، الى مسرى استثماري، أو الى بورصة أصوات. حيث تتراجع القيم السياسية والخلقيات الوطنية، وتصبح الانتخابات، بمثابة مزاد غير علني، من يدفع أكثر يحصد أكثر.
ويشهد وزير الاعلام القواتي ملحم رياشي بأن هناك بيعا وشراء للأصوات، وغير الأصوات على امتداد الليل والنهار، كما ان هناك أيضا من لا يباعون ولا يشترون بالطبع.
لكن البثرة المتقيّحة تشوّه الوجه الجميل، ومهما قلّلوا من حجم الخميرة الفاسدة في المعجن الكبير، تبقى قادرة على افساده، والمشكلة هنا، ليست بوجود الفساد بذاته، بل في ضعف وسائل مكافحته، بدليل وجود فساد، وعدم وجود فاسدين، خلف القضبان، وبدليل انتقال هيئة الاشراف على الانتخابات من مرجع شكوى الى مصدر شكوى، يرفع المرشحون المغبونون شكواهم اليها، فترفعها هي بدورها الى الجهات التنفيذية، التابعة بطبيعة الحال، الى وزراء مرشحين للانتخابات، وهكذا نصبح أمام قول الشاعر: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم…
الرئيس ميشال عون استخلص من التجربة الانتخابية الأولى في عهده، ان المحاسبة هي ضمانة العمل الديمقراطي، وهذا صحيح، لأن ما نحصده من فساد وفوضى على مختلف المستويات الوطنية والأخلاقية مردود الى انعدام المحاسبة، فأي بلد يبقى سنوات بلا موازنة ولا قطع حساب، سينتهي الى مثل هذه الحفرة.
لكن الفيلسوف الانكليزي الساخر برنارد شو يعطي أسبابا أخرى لوهن الديمقراطية، أبرزها ان الديمقراطية لا تصلح للمجتمعات غير القادرة على استيعابها… والجهل في علم الاجتماع، أقصر الطرق لسيطرة الاستبداد ومشتقاته من تسلّط وفساد.
وعلى الرغم من ازدهار العلوم في لبنان قياسا على بلدان أخرى، فان الذهنية الفردية المهيمنة في غابة الأنا المطلقة، مسؤولة بنسبة كبيرة، عن تردّي المفاهيم، وتراجع الاعتبارات.
وأمام هذا الواقع، يصبح السؤال المطروح: لبنان الى أين؟
والجواب: لبنان الى الأمام، الى المواجهة مع الذات قبل الغير، الى المجالدة والصبر، ريثما تنقشع الغيوم الاقليمية المخيّمة في سماء المنطقة، ومنها لبنان.
والصبر، كما يقول أحد الحكماء، صبران: صبر على الطاعة، وصبر على البلاء، والصبر على الطاعة أعلى مقاما من الصبر على البلاء، لأن الصبر على الطاعة صبر اختيار، أما الصبر على البلاء فهو صبر اضطرار…
ونحن الآن في خانة الاضطرار…