لا يملك أحد بعد جلستي الحكومة ومجلس النواب إلا التيقن من أن عمر شغور رئاسة الجمهورية طويل. كلتاهما أظهرتا الاستعداد لترتيب شؤون البيت في هدوء بتفاهمات ودية مكشوفة إلى أن يحين، في وقت ما، أوان تسوية مسكونة بالأوهام
بعد الجلسة الثانية لمجلس الوزراء الأربعاء، الجلسة الحادية عشرة لمجلس النواب الخميس تتمتها. كلاهما يديران الشغور الرئاسي كل على طريقته. كسبت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي رهانها على التسليم بها أنها آلة الحكم الوحيدة الدستورية والشرعية، وأبقت إدارة مجلس النواب جلسات انتخاب الرئيس في السياق المدروس المتفق عليه: لا رئيس للجمهورية إلا في ظل اتفاق مسبق عليه.
مفتاح السلطتين الإجرائية والاشتراعية عند حزب الله. يملك في حكومة ميقاتي أكثر بكثير من وزيريْه كي يحول دون اجتماعاتها. وهو سبب وجيه كي يحمل رئيسها على الاكتفاء ببندي الكهرباء ويرفع الجلسة، فيخرج منها رابحاً انعقادها وخاسراً جزئياً بحرمانه إمرار جدول أعمال وضعه هو بصفته صاحب الصلاحية الدستورية. ما حصل في مجلس النواب مماثل. مع أن عدد الأوراق البيض تدنى إلى رقم قياسي هو 37 صوتاً للمرة الثالثة على مر الجلسات الـ11 المنصرمة، إلا أن المرشح المنافس لها النائب ميشال معوض حصل بدوره على الرقم الأدنى في أرقامه السابقة وهو 34 صوتاً للمرة الأولى، ما يشير إلى أن بعضاً ممن كانوا إلى جانبه ومنحوه في الجلستين الخامسة والسادسة رقمين قياسيين هما 44 صوتاً و43 صوتاً بدأوا يراجعون خيارهم هذا تمهيداً للتخلي عنه ربما.
ما حصل في جلسة انتخاب الرئيس الخميس، جديد في ظاهره وجديد كذلك في تفسيره، إذ يدور من حول الأوراق الملغاة. انعقد البرلمان حتى الآن عملياً في عشر جلسات انتخاب كون الجلسة الثانية لم تلتئم لافتقارها إلى النصاب القانوني الملزم. أولى الجلسات العشر في 29 أيلول لم تكن ثمة ورقة لاغية فيها. من الجلسة الثالثة إلى الجلسة الثامنة في الأول من كانون الأول توزعت الأوراق الملغاة بين أدناها ورقة واحدة وأعلاها 15 ورقة، كانت تحمل أسماء أو صفات لا صلة لها بانتخاب الرئيس فألغاها رئيس المجلس نبيه برّي. أتت الجلسة التاسعة في 8 كانون الأول بعد ثلاثة أيام على انعقاد حكومة ميقاتي ومقاطعة وزراء النائب جبران باسيل لها وتالياً انفجار الخلاف بينه وحزب الله كي توجه رسالة سلبية إضافية من داخل البرلمان هي نشوء كتلة ثالثة في التصويت، إضافة إلى كتلتي الورقة البيضاء ومعوض، هي الأوراق اللاغية سواء بطرح أسماء غير مرشحة أو مواصفات وأوصاف. في الجلستين اللتين سبقتا الخميس الماضي (التاسعة والعاشرة) بلغ عدد الأوراق الملغاة 21 صوتاً. في الجلسة الأخيرة ارتفع عددها إلى 29 ورقة، فإذاً حصيلة الاقتراع ثلاثة أثلاث بين الكتل الثلاث، وتحولت الورقة البيضاء إلى ثقل إضافي على طريق الحؤول دون انتخاب رئيس للجمهورية. بالتأكيد ليس باسيل ولا كتلته النيابية هم الممسكون بالأوراق الملغاة التي تمثّل كذلك بعض أصوات الامتعاض السنّي الذي يقف متفرجاً للمرة الأولى في تاريخ استحقاقات مماثلة دونما أن يكون شريكاً فعلياً فيها.
بذلك يواجه انتخاب رئيس للجمهورية سابقة غير مألوفة وغير مجرَّبة حتماً حتى الآن. أن يخوض مجلس النواب في الصلاحية الدستورية المعطاة له لانتخاب الرئيس بالاقتراع السري من دون أي مرشح. لا أصحاب الأوراق البيض سمّوا مرشحهم وهو معلوم ولا أصحاب الأوراق الملغاة لديهم مرشح. أما المرشح المعلن، وهو نائب زغرتا، فتتدنى حظوظ مضيه في الترشيح بتراجعه جلسة بعد أخرى، ما يُفصح عن أنه ليس المرشح الفعلي لداعميه المتناقصين.
مؤدى ذلك بضعة استنتاجات:
أولها، استمرار كل من حزب الله والتيار الوطني الحر في إبراز خلافه مع الآخر على طريقته دونما الالتفات، أو الاهتمام على الأقل، بوقف دفع العربة إلى الوادي. كلاهما يتصرف كأنه لا يأبه بمآل تردي علاقة الحليفين، بينما انقطاع التواصل يستمر بلا وسطاء أو إرادة القبول بوسيط جدي. كلاهما يجرّب عملياً إفادته من مغزى الاستغناء عن الآخر في الوقت الحاضر.
ثانيها، استمرار تناقض وجهتي نظرهما حيال حكومة ميقاتي. اختار حزب الله البقاء في صفوفها ممسكاً بالقدرة على منع انعقادها، وفي الوقت نفسه مجاراة هذا الانعقاد المشروط بالضروري والحيوي والملح. في الطلات الأخيرة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله لم يكن خافياً تعمّد إظهاره الدور الجديد للمقاومة، وهو انصرافها إلى شؤون قاعدتها ومتطلبات الجمهور وحاجاته المتردية. تريد أن تظهر هذه المرة أنها وضعت السلاح جانباً كي تستوعب ما يشكو منه جمهورها كسائر اللبنانيين. بذلك برر الحزب مشاركته في مجلس الوزراء وتشبثه ببندي الكهرباء ليس إلا. أما مقاربته انتخاب رئيس للجمهورية فمختلفة تماماً. المقاومة بمضمونها الجدي المرتبط بأمن سلاحها ووجوده في صدارة الاستحقاق واطمئنانها إلى الرئيس المقبل كي توافق قبلاً على انتخابه. في مقابل استعداده للتنازل في شؤون حكومة ميقاتي، يتصلب أكثر في خيار انتخاب الرئيس الذي صار يحسبه، بدءاً من ولاية الرئيس ميشال عون، أنه في صلب استراتيجيا المقاومة.
ثالثها، ليس خافياً ولا مكتوماً استياء الحزب من مجازفة باسيل في الاشتباك معه في موضوعي الحكومة والرئاسة وخصوصاً في هذا التوقيت بالذات. لم تعد ثمة فرص لوصولهما حيالهما إلى حل وسط. لا الحزب سيتخلى عن ترشيحه المضمر للنائب السابق سليمان فرنجية ـ ولم يعد لديه سواه بعد فقدانه الثقة بالحليف الذي يتمرد عليه ـ ولا هو سيعود أدراجه عن حكومة ميقاتي. في المقابل يذهب رئيس التيار الوطني الحر إلى الحدود القصوى في الخلاف معه على الموضوعين اللذين صار يعدّهما أنهما محددان لمستقبله السياسي.
رابعها، ليست لعبة الأوراق الملغاة التي يديرها التيار، مع قليل جداً من تصويت للورقة البيضاء قبل الوصول إلى اللاعودة، سوى إحدى علاماته أن لديه خيارات شتى في أوانها تساعده على رفض فرض أمر واقع عليه. خرج من الأوراق البيض التي ظل في صلبها حتى الجلسة الأولى لمجلس الوزراء في 5 كانون الأول. بعدها أدار ظهره للجميع.