بعد تسع سنوات من الفراغ الانتخابي، طويت صفحة الانتخابات، وربح من ربح، وخسر من خسر، دون أن يمكّننا ذلك من تقليب الصفحات التي سبقت يوم السادس من أيار لنكتشف من خلالها، أشهرا لم يشهد فيها لبنان مثيلا في التفلت من المقاييس التي لم يسبق أن انحدر عدد كبير من المتنافسين الإنتخابيين إلى دركها السحيق في المجابهات والملاكات الانتخابية، وصلت إلى حدود قصوى في تقاذف العبارات النابية والتهم المنهمرة ما بين المتنافسين، الصحيح منها والمختلق، دون أن ننسى ذلك الخَرْق للمحرمات اللاأخلاقية والوطنية التي زرعت ألغاما شديدة الخطورة في مسيرة لبنان الواحد والعيش المشترك وسلامة الأمن القومي وإحياء بوادر الإستقرار التي توفرت بعضٌ من معالمها في المرحلة الأخيرة.
صفحة وقد طويت، وسمعنا عشية يوم السادس من أيار كثيرين من القادة وكبار المرشحين وقد استعادوا عقل الرحمن بصورة إنقلابية، وربما تعود انقلابيتها إلى صفحة جديدة ستتلوها إستقالة الحكومة الحالية وفتح الأبواب أمام استشارات نيابية توطئة لتشكيل حكومة جديدة تضم اليها جملة من الوزراء الجدد، ومثلما كان هناك طموح للنيابة، هناك الآن من يطمح إلى المواقع الوزارية والتنافس قائم ما بين مئات من الطامحين، للوصول إلى بهرجها منذ الآن.
ويذهب كثير من المراقبين إلى التنبيه من حساسيات ومزالق وأخطار الصفحات المقبلة، حيث بدأت التصرفات المشبوهة لبعض الجهات والفئات، تدق نواقيس نوايا وتصرفات خبيثة بدأت تتحرك باكرا جدا فبدأت مسيرات الدراجات النارية التي يقودها من وصفهم إعلام محرّكيها بالزعران، تطوف في أماكن حساسة من بيروت مطلقة التشائم والعبارات النابية، ذات الطابع المذهبي، الأمر الذي استدعى تدخلا سريعا وحاسما من المراجع السياسية والأمنية المختلفة، وأُطفئت محاولات جرّ البلاد إلى مواقع الفتنة والمجهول، وهي ما تزال في مهدها، الأمر الذي يؤكد على حاجة البلاد الملحة لمواكبة الأوضاع الأمنية بكثير من الحزم والحذر.
لقد طويت هذه الصفحة القاتمة في مهدها، وقريبا ما ستبدأ الإستشارات النيابية بصفحة جديدة لا تلبث أن تليها صفحة تأليف الحكومة، وهنا يتحسب المراقبون من أن تطول مرحلة التأليف هذه لما يتوقعونه من صعاب قد تعترض مسيرة التأليف، وهنا ستطل إلى الأجواء، جملة من المواقف الحادة المتعلقة بعهد جديد لطالما أعلن تكرارا أنه عازم على الإمساك بخيوط الحكم الطائل والقادر من خلال وزراء ينتمون بأرجحية وازنة، إلى خط الرئاسة، ودون أن ننسى جملة من التصريحات التي أطلقها السيد حسن ما قبل الحملة الانتخابية وما بعدها، لجهة رغبة حزبه في الإمساك بالمسيرة الإنتخابية التي يرى بأنّ تمكنه من ذلك سيعزز إمساكه هو الآخر بخيوط وخطوط التحكّم القانوني والدستوري، إضافة إلى ما لديه من التحكّمات متعددة الأنواع والأشكال، دون أن ننسى تصريحات السيد نعيم قاسم التي ذهب فيها إلى أن حزب الله سيتعامل مع الرئيس الحريري بعد الإنتخابات على نحو مخالف لتعامله معه في المرحلة السابقة، وبما أن المعركة الإنتخابية كانت في الواقع في وجهٍ من وجوهها، معركة تحديد أحجام وأوزان أفرزت إلى الوجود السياسي، الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر وتيار المستقبل والقوات اللبنانية في المواقع التي تدل على حجم كل منهما، ولما كانت هناك بوادر للاعتقاد بأننا بصدد عمليات شدّ حبال وتصادم ما بين هذه القوى، بدءا بما يمكن أن يحصل لاحقا بين رغبات الثنائي الشيعي وبين التيار الوطني الحر، وإمكانيات التنافس الشديد ما بينهما على الإمساك بمواقع السلطة الأساسية والوزارات السيادية مع إصرار للثنائي في جملة إصراراته على أن تكون وزارة المالية مقتطعة بصورة دائمة، لوزير شيعي، دون الأخذ بعين الاعتبار لمبدا الامتناع عن تثبيت أي من الوزارات لوزراء من طائفة أو من مذهب واحد.
وستطوى صفحات وستبقى صفحات تنتظر دورها للفتح، ومن بينها على سبيل المثال معالجة جملة من القضايا الملحة، المتمثلة بمأساة الكهرباء ومصيبة النفايات والمكبّات والمياه الملّوثة، وستبقى عالقة في الأجواء قضية الفساد بكافة وجوهها وأبطالها وساستها والضالعين من خلالها في نهش ثروات البلاد وودائعها ومخصصاتها الموجهة لخدمة الوطن والمواطن، ولا بد من أن تطرح في أجواء مستجدة قضية الأموال الطائلة التي دُفعت من أكثر من لائحة انتخابية ومن أعداد كبيرة من أغنياء المرشحين ومن المرشحين الذين كشفت الإنتخابات عن أنهم أصبحوا من كبار الأغنياء، القادرين على الدفع السخيّ وبالتالي، هذا الفساد الانتخابي الذي فضح نفسه كما لم يفضحها قبلا، لا بد وأن يكون في طليعة الموبقات المخزية التي لا بد من تسليط الأضواء الإعلامية والتشريعية والعقابية عليها في طليعة المعالجات المستعجلة لمن بيدهم الحوْل والطوْل والضمير الوطني الحي، دون أن ننسى أيضا، هذا القانون الإنتخابي الذي أُجريت على أسسه التي اعتمدت بكل ثغراتها وخفاياها وخباياها وتفصيلها على قياسات وطموحات معينة ستتطلب منا جميعا معالجات سريعة لها من خلال تعديلات جذرية تطاولها بما يعيد الإنتخابات إلى اطاراتها الديمقراطية والمنطقية السليمة.
وعطفا على الصفحات العديدة التي طويت وتلك المنتظر طيّها عاجلا أم آجلا، يقتضي الاّ ننسى على الإطلاق، ذلك اللهب الغزير الذي يطاول المنطقة بأسرها مهددا إقليم الشرق الأوسط ودول الخليج العربي. هي أوضاع شديدة الخطورة، خاصة بعد انسحاب الرئيس ترامب من الإتفاق النووي، وتهديداته الجادة بالويل والثبور وعظائم الأمور، وإن نتائجها المتوقعة تتطلب من اللبنانيين جميعا فيضا من اليقظة والتحسب والإبتعاد بهذا الوطن عن كل احتقانات ومسببات الخراب والدمار، والمنطقة حبلى بأسباب المعضلات الأمنية بأشكالها وأحجامها المختلفة وتتهيأ ساحاتها على ما يبدو، لتلقي مجموعة من الفتن، لعن الله من يوقظها.