الدواء، الطون والحليب الإنتخابي
حتى الزفت غاب في بلدٍ تتكرر فيه، على لسان ناسه، في اليوم القصير عشرات المرات كلمة: زفت! مبدئياً، تفصلنا عن موعد الإنتخابات النيابية ستة أشهر على الأكثر (في حال قبول الطعن) وطالما كان “زفت الإنتخابات” شكلاً من أشكال تكوين دولتنا ومجالسنا، حيث يسترضي من فيها الناس بـ “فشة” زفت على الطرقات قبل الإنتخابات ويجعلون حياتهم كل الأيام الأخرى زفتاً. فما حال لبنان اليوم مع “زفت الطرقات”؟ سؤالٌ يطرح.
أمور كثيرة تغيّرت. لبنان كله يتغير. و”الزفت” الذي يهواه السياسيون ويستخدمونه “ورقة إنتخابية” أصبح الإهتداء إليه “بالسراج والفتيلة” وأكبر من قدرة كل من في البلد على “التمترس” وراءه في حملات فيها كلام كثير وفعل قليل. النواب اليوم، بمن فيهم من هم أعضاء في لجنة الأشغال العامة، ما عادوا “على السمع” خصوصاً حين يسمعون العنوان: الزفت! فليس لديهم ما يقولونه لذا ينقطع الخط: توت توت… حين يسمعون “بالزفت”. النائب محمد قباني على سبيل المثال وصل للتوّ من رياضة المشي “على الزفت” وهو ينوي الآن”الإستحمام وتناول الطعام”. فلنتركه بحاله. نكرر الإتصال بنواب حاليين وسابقين. نتصل بوزراء. نتصل بمعنيين. حتى الإتصالات اليوم ما عادت مجدية. أصبحت زفتاً.
ورقة خاسرة
النائب في تكتل “الجمهورية القوية” جوزف إسحق يجيب. هو النائب المهذب جداً في البرلمان اللبناني الآتي من جوار الأرز. وهو عضو في لجنة الأشغال النيابية. فماذا لديه ليقول في هذا الموضوع؟ يجيب: “منذ وصلنا، منذ ثلاثة أعوام، لم نحصل على مخصصات للزفت كما درج سابقاً ولم تجر تلزيمات حتى للحفر الموجودة على الطرقات. ووزارة الأشغال اليوم في ورطة فالتسعيرة لا تزال وفق سعر صرف الدولار 1500 ليرة. وكي يحصل التلزيم من دون ديوان المحاسبة يفترض ألّا يتجاوز 100 مليون ليرة، وهذا المبلغ يعادل اليوم أقل من 5000 دولار أميركي، يعني لا يكفي ثمن كميون زفت واحد. وبالتالي لم يعد مفهوم “الزفت الإنتخابي” قائماً اليوم في المنطق العام. ويتذكر: في انتخابات العام 2018 النيابية إستخدم الزفت الإنتخابي ليوم الزفت. وكل واحد كان ضدنا في الإنتخابات حصل على تلزيمات وتمكن من فلش الزفت. لكني، أشك اليوم في تكرار ذلك. الزفت الإنتخابي أصبح “ورقة خاسرة” ومن سبق واستعملوه ما عادوا قادرين على استخدامه من جديد، خصوصاً أن موازنة الدولة أصبحت “ورقية” غير موجودة فعلياً وعملياً”.
يتذكر جوزف إسحق ما كان يحصل: “كان الوزراء يقسّمون المشاريع، في تحايل واضح، الى أجزاء، كل جزء بقيمة 100 مليون كي لا يخضعوا الى ديوان المحاسبة، لكن اليوم لم يعد لهذا المبلغ أي قيمة. “ما بقا حرزان” ووزارة الأشغال طرحت مشروع رفع المبلغ لكن لم يمش به أحد”.
ثمة متعهد عمل في الفترة الأخيرة على ترقيع الحفر في بعض المناطق البترونية ويدعى إميل عطالله. فمن أين اشترى الزفت؟ يجيب “أصحاب الجبالات هم من يشترون المواد من التجار الكبار، بحص وبودرة ومواد متنوعة، ونحن نشتريه جاهزاً منهم. الطن بسعر 60 دولاراً. لذا تدنى كثيراً العمل وما عاد بمقدور الكثيرين الطلب منا، كمتعهدين، فلش الزفت حيث يشاؤون”. المتعهد عطالله لا يعرف إلا رمي الزفت على الحفر الموجودة ولا يهتم بمن يدفع “فأنا لا أشتغل سياسة” على ما علّق.
الزفت سياسة أيضا. والمتعهدون طبقات: كبار وصغار. وحين نراجع أسماء المتعهدين تبرز إنتماءات طالما كانت سارية. فلتيار المردة متعهد هو أنطون مخلوف. ولـ”حزب الله” متعهد هو حسين علي صالح الموسوي. ولحركة أمل أكثر من واحد بينهم محمد دنش ومحمد عيراني. ولتيار المستقبل عماد الخطيب وجهاد العرب وهلمّ جراً…
هناك حظ “زفت” في الحياة وهناك تصرفات “زفت” وأوقات “زفت” وهناك أيضا “زفت” للطرقات. فماذا عن الزفت عند البلديات؟ رئيس بلدية الغبيري معن الخليل يتحدث من الآخر: “أولا لا شيء يؤكد أننا ذاهبون الى إنتخابات. لكن، لجهة “الزفت” فنحن، كبلديات، نشتغل إنماء لا إنتخابات ولا إمكانات مالية لدينا للتزفيت. فوزارة الأشغال في عجز مالي ونحن، في العادة، نرفع إليها الكتب في الموضوع لكنها ما عادت تجيب، علماً أن تعبيد الطرقات العامة من إختصاصها. كما أن هناك جهات مانحة مثل الصندوق الكويتي والبنك الإسلامي وغيرهما كانت تعمد الى التكفل بتزفيت المشاريع الإستراتيجية والأوتوسترادات وكلها توقفت. نحن راجعنا وزارة الأشغال أكثر من مرة لكن جواب الوزير كان: الأموال ضئيلة جداً وبالكاد تكفي كلفة شراء محروقات لموتورات المياه والتراكتورات لرفع الثلوج”.
هو الزمن الصعب حتى على “المرشحين”. فالزفت، على أبواب الإنتخابات المقبلة، هذا إذا حصلت، سيغيب إلا لماماً، وهذه المرة من جيوب من يطمحون الى الجلوس على مقعد نيابي. يعني من اللحم الحيّ على أن يستردوا ما دفعوه في يوم قريب. طموح وأمنيات وأحلام وسلوك لا يحصل إلا في بلاد “الماو ماو”.
ندور على النواب طارحين مجدداً السؤال: بماذا تشعرون بغياب مخصصات الزفت التي كانت تعطى لكم؟ بالغبن مثلاً؟ فخامة الرئيس، حين كان نائباً، أطل من الرابية في العام 2008 ليقول عن تزفيت الطرق: “تعرفون أن للنواب مخصصات، وقد أخذنا مخصصات الـ 2005 لكن أين مخصصات 2006 و2007؟ الحكومة وزلمها يصرفون مخصصات الزفت من هيئة الإغاثة. إنهم يوقفون المخصصات في الموازنة ويصرفون من الإغاثة ويعطونها “للزلم تبعن”.
القصة فيها إذا “زلم” من زمان وجاي والكل يستخدمون مخصصات من جيوب الناس لرشوة الناس ببعض الزفت. فماذا عن “زلم” لبنان القوي؟ هناك من يستذكر ما حصل بين “عونيَّين” في أيار 2021 هما سيمون أبي رميا ووديع عقل حين قال الثاني عن الأول من دون أن يسميه بعد “مبادرة” قام بها لفلش الزفت والإنارة في جبيل: “هناك نواب عم بيفشخوا إنو بدن يرقعوا الأوتوستراد زفت” فردّ عليه مكتب ابي رميا من دون أن يسميه أيضا بالقول “إنحطاط بعض اللاهثين وراء النجومية الشعبوية الفارغة يدفعنا الى التوضيح من دون النزول الى حضيض مستواهم”. يبدو أن “الزفت” قادر أن يشقّ حتى الصفّ الواحد. فيا لمفعول “الزفت” في البلد.
كسروان قبلاً
الوزير السابق يوسف سلامه شاهد قديم جديد على أحوال الزفت. فهل نحن قادمون على “زفتٍ” أكبر في النفوس وأكثر على الطرقات؟ يجيب: “البلد يعيش اليوم، قبيل الإنتخابات (هذا إذا حصلت) ليس على زفت الإنتخابات وحده بل على سوبرماركت الإنتخابات ومازوت الإنتخابات. ويستطرد بالقول: هي ظاهرة موجودة من زمان لكنها اشتدّت كثيراً في الآونة الأخيرة بعدما جاع الناس”.
يقول سلامه “قبل تسعينات القرن الماضي لم تكن كسروان، كحال كثير من جنبات لبنان، تباع وتشترى. كانت الأخلاق السياسية أقوى لكن، شيئاً فشيئاً، ذابت المبادئ وسادت ثقافة الرشوة والراشي. زمان كان رجال المال “sponsor” لرجال السياسة أما اليوم فبات من يملك المال هو السياسي حتى وصلنا الى وقتٍ لم تعد فيه الدولة، كما كثير من الطرقات فيها، “بتترقع”. أصبحنا في دولة غير قابلة للحياة بشكلها الذي كانت عليه في العام 1920. فالجميع الآن ضعفاء لأن الجميع يستمد قوته من الخارج. والخارج قد يتنازل عن من يتبعه في الداخل ساعة يشاء. ياسر عرفات، على سبيل المثال لا الحصر، كان حتى حزيران عام 1982 الحاكم بأمرنا وبعد أقل من أسبوع صعد الى باخرة ورحل”.
بدأنا بالزفت فوصلنا الى لبنان الكيان، والضعفاء فيه، ومن يظنون أنفسهم أقوياء. حالة الزفت والزفت الإنتخابي والطرقات التي تتزحلق عليها المركبات، حاصدة الأرواح، على زفت بلا مواصفات، كلها عناوين تجعل الذكريات تعوم في بلد يعيش “الأوقات الزفت” بامتياز.
نعود الى بلدية الغبيري التي يخبرنا رئيسها أنه “يرقّع” طرقاتها “فسعر الطن كان 120 ألف ليرة أما اليوم فبلغ 80 دولاراً والطن الواحد يفلش 10 أمتار مربعة”. يعني نحن، في الزمن الإنتخابي، نعيش حتى في الزفت “ترقيع بترقيع”.
وزير الأشغال السابق ميشال نجار، الذي قيل أنه رصد يوم كان في منصبه مبلغ 129 مليون دولار لتعبيد طرقات زغرتا والكورة وجبيل والبترون، ليس في لبنان. هو في قطر. فلنتركه حيث هو. وهو القائل لنا “أنه سيئ الحظ كونه أتى في أسوأ وقت”. في كل حال، يبقى ما فعله لا يقاس بواحد في المئة مما فعله سلفه يوسف فنيانوس مستخدماً “الزفت الإنتخابي” حتى النخاع.
زفت. تسمعون بهذه الكلمة في هذا الزمان كما لم تسمعوها في اي زمان آخر. فكيف إذا كنا في زمن إنتخابات؟ وماذا إذا أضيف الى الزفت الإنتخابي “الطون الإنتخابي” و”الحليب الإنتخابي” و”الدواء الإنتخابي”. ألم نقل منذ البداية أن الزفت كثير؟