في زمن الانتفاضة على السياسات الحكومية التي أوصلت البلد إلى الإفلاس، لم يعد ممكناً أن تتعامل السلطة مع القضايا العامة بالأدوات السابقة. في مناقصة الكهرباء، تصرّ وزارة الطاقة على الحل المؤقت لزيادة الإنتاج، بالرغم من أن هذا الحل يكلّف الدولة مبلغ مليار دولار إضافي. والوزارة، كما الحكومة المستقيلة، تتمسك بالشراكة مع القطاع الخاص بالرغم من غياب الجدوى. وهي أيضاً تتمسك بالتزامن بين مناقصة الكهرباء ومناقصة محطات الغاز، بالرغم من أن أي تأخير في البدء بتشغيل المعامل على الغاز يخسّر الدولة 250 مليون دولار سنوياً في الحد الأدنى
خطة الكهرباء التي أقرّها مجلس الوزراء انتهت مفاعيلها. بالرغم من أن وزيرة الطاقة تؤكد التمسك بها في كل مناسبة، إلا أن ذلك لا يغيّر من الواقع، الذي فرض نفسه، انطلاقاً من ثلاثة مستجدات رئيسية: الانتفاضة الشعبية المستمرة منذ 45 يوماً، واستقالة الحكومة في 29 تشرين الأول الماضي، والانهيار المالي والاقتصادي الذي لم يشهد لبنان له مثيلاً.
الخطة سبق أن أكدها مجلس الوزراء في الجلسة الأخيرة التي عقدها في 21 تشرين الأول، جازماً بأنها ستؤدي إلى كهرباء 24 / 24 في العام المقبل، من خلال مجموعة من الخطوات المتعلقة بمناقصة بناء معامل دائمة ومؤقتة لإنتاج الطاقة، تنتهي في نهاية شباط 2020.
ما الذي حصل منذ ذلك التاريخ؟ وهل تسير الخطة وفق المهل الموضوعة لها؟ وهل لا يزال بالإمكان الركون إلى خطة رُسمت بعقلية ما قبل الانتفاضة وما قبل الإفلاس؟
تعتمد خطة بناء المعامل على عقود IPP، التي تسمح للقطاع الخاص ببناء المعامل وتشغيلها لمدة معينة (25 سنة في الحالة اللبنانية)، على أن تلتزم الدولة بشراء الطاقة من هذه المعامل طيلة مدة العقد.
من يموّل؟
قبل الدخول في تفاصيل المناقصة ومصيرها، لا بد من الإشارة إلى أن كلفة المعامل باهظة جداً، وهي تتخطى مليار دولار. وفي الظروف الحالية، قد لا يكون القطاع الخاص قادراً على الحصول على التمويل المطلوب لهذا الاستثمار. فالمصارف المحلية جمّدت كل عملياتها وبالكاد تتمكن من تسيير أعمالها، وهي حكماً غير قادرة على تأمين التمويل. أما المصارف الدولية، فهي بدورها لن تكون مستعدة للاستثمار في بلد على حافة الانهيار، وإن فعلت فسيكون ذلك بفوائد مرتفعة جداً تلغي جدوى الاستثمار. كذلك، فإن الدولة لن يكون بإمكانها تأمين ضمانة سيادية تحمي المستثمر من تقلبات سعر الصرف (التمويل بالدولار والفواتير بالليرة).
كل ذلك يعني أن المعامل ستبقى حبراً على ورق، وكذلك الكهرباء 24/24 ستبقى وعوداً فارغة كما كانت سابقاً. ما العمل إذاً؟ على الدولة أن تتحمل مسؤولياتها. وذلك لا يكون إلا بتغيير العقلية التي تدير القطاع والدولة. وهذا لا يتحقق إلا بالعودة إلى مبدأ الدولة الراعية، الملزمة بتأمين الخدمات للمواطنين. قد يكون ذلك ضرباً من الخيال، خاصة في ظل سلطة أثبتت فشلها خلال 30 عاماً، وأوصلت البلد إلى الهاوية. لكن مع ذلك، كل ما هو مطلوب هو العودة إلى البديهيات. إذا كانت الدولة تعتبر أن رفع تعرفة الكهرباء هو السبيل للتخلص من عجز الكهرباء، فعليها إذاً أن تزيد الانتاج. وإذا كان الاعتماد على القطاع الخاص لم يعد ممكناً، فلا بد من العودة إلى بناء المعامل من قبل الدولة. وهذا عملياً يعني إمكانية الإسراع في بناء المعامل، وكذلك توفير مبالغ طائلة كانت ستؤول إلى القطاع الخاص، علماً بأن تمويل هذا الخيار فرصُه أعلى من فرص تمويل القطاع الخاص، لأن الدولة لا تلجأ إلى المصارف التجارية بل إلى الصناديق والمؤسسات العربية والأجنبية التي سبق أن أبدت استعدادها لدعم لبنان بقروض طويلة الأمد وبفوائد منخفضة.
مهل غير واقعية
بصرف النظر عن كل المستجدات التي طرأت، في الخطة التي أقرّها مجلس الوزراء إشكالية أساسية تتعلق بالمهل غير الواقعية المحددة لإجراءات المناقصة وصولاً إلى توقيع العقود. فالمناقصة يفترض أن تنجز من ألفها إلى يائها خلال ثلاثة أشهر فقط. ولذلك اعتبرت إدارة المناقصات أن الجدول الزمني المطروح «شديد التسرّع وغير عملي»، داعية إلى تعديله، انطلاقاً من أن هذا الجدول يستتبع تمديد المهل، وهي ممارسات سيئة برأي خبراء الاتحاد الأوروبي الذين يعاونون الإدارة. فالعارض الجدي لن يدخل المناقصة، لأن التوقيت غير جدي. وهذا أمر شديد الخطورة، لأنه يحدّ من المنافسة ويلغي وظيفة المناقصة.
لا لزوم للمرحلة المؤقتة
حتى مع تجاوز هذه الإشكالية، يتجدد النقاش بشأن جدوى الطريقة المتّبعة لتحسين مستوى التغذية. الخطة تضمنت مرحلتين من الانتاج، مرحلة مؤقتة ومرحلة دائمة. في اللجنة الوزارية التي ناقشت موضوع الكهرباء، غلبت وجهة النظر التي تدعو إلى إلغاء المرحلة المؤقتة، لسببين: كلفتها العالية وعدم جدواها. لكن نظراً إلى الظروف التي استجدت، عمد مجلس الوزراء إلى إنهاء النقاش، وإقرار دفتر الشروط بالاعتماد على قاعدة: «الموافقة على دفتر الشروط وفق التعديلات التي أبدتها اللجنة الوزارية المشكّلة لهذه الغاية والموافق عليها من قبل وزارة الطاقة والمياه». وهذا يعني عملياً أن أي ملاحظات أو تعديلات لم توافق عليها وزارة الطاقة تكون قد سقطت حكماً. وهذا ما حصل، على سبيل المثال، في الخلاف الذي شهدته اللجنة بشأن الأرض التي يفترض أن يبنى عليها معمل سلعاتا. أغلبية الوزراء المشاركين كانوا ضد نقل المعمل من «حنّوش» إلى سلعاتا، لكن لأن الأمر لم يحسم في اللجنة، أشار دفتر الشروط إلى بناء المعمل في سلعاتا، انطلاقاً من أن الوزارة لم توافق على التعديل المقترح!
إدارة المناقصات: إلغاء المرحلة المؤقتة يوفّر مليار دولار
ما استجد بعد جلسة مجلس الوزراء كان تأكيد إدارة المناقصات نفسها أن المرحلة المؤقتة لا لزوم لها. فالإدارة التي استعانت بخبراء من الاتحاد الأوروبي لوضع ملاحظات على دفتر الشروط، خلصت إلى أن إلغاء الحلول المؤقتة غير المجدية، مقابل الإسراع في الحلول الدائمة لتأمين الطاقة، يوفّر ما لا يقل عن مليار و50 مليون دولار أميركي. وهؤلاء الخبراء، يعتبرون أنه بحسب خطة وزارة الطاقة فإن الحل المؤقت سيسمح بعد 15 شهراً من التوقيع على إتفاقية شراء الطاقة بتوليد 675 ميغاوات (مع احتساب 3 أشهر تأخير)، بينما بحلول الشهر 20 سيؤمن الحل الدائم 1350 ميغاوات، وهذا يعني أنه مقابل تأخير يبلغ 8 أشهر سيتم محو الفائدة الزمنية، من دون الحاجة إلى الاستثمار في المعامل المؤقتة. خاصة أنه يمكن تشغيل المعامل على الدائرة المفتوحة في فترة سريعة نسبياً، ومن ثم تحويلها إلى الدائرة المغلقة خلال 30 إلى 42 شهراً من تاريخ توقيع العقد.
حتى اليوم، لا تزال وزارة الطاقة تصرّ على موقفها من الحل المؤقت، بالرغم من كل الدراسات والآراء التي تعترض عليه وتؤكد أن تكلفة كل ميغاوات في الحل المؤقت ستكون أعلى بـ40 في المئة من تكلفة الحل الدائم.
أين الغاز؟
وزارة الطاقة، تصرّ، بشكل مستغرب، على ربط مناقصة الكهرباء بمناقصة محطات الغاز. وبالرغم من أن الأخيرة أنجزت، ولم يبق سوى إعلان الفائز وتوقيع العقد معه، إلا أن الأمور مجمّدة بانتظار مناقصة مصيرها لا يزال مجهولاً، علماً بأن الحاجة إلى الغاز لتشغيل معامل الكهرباء هي حاجة قديمة، وسبق أن اختبرت مفاعيلها عندما تعاقد لبنان مع مصر لاستجرار الغاز وتشغيل معمل دير عمار. تشغيل ذلك المعمل (465 ميغاواط) على الغاز بدلاً من الديزل أويل يوفر على الدولة اللبنانية نحو 250 مليون دولار سنوياً.
وزارة الطاقة ليست وحدها المسؤولة. مجلس الوزراء أقرّ في جلسته الشهيرة أيضاً وجوب رفع اللجنة الوزارية المعنية اقتراحاتها في هذا الخصوص الى مجلس الوزراء، «وذلك بالتزامن مع إجراء مناقصة شراء الطاقة على الوجه المعروض».
صحيح أن اللجنة الوزارية لم تعد تجتمع، وحتى لو أن مجلس الوزراء مستقيل، إلا أن ذلك لا يعفي من ضرورة الاسراع في تلزيم مشروع بناء محطات التغويز لاستيراد الغاز المُسال بما أن العروض التقنية والتجارية قد فضّت. وإن لم يكن ذلك ممكناً اليوم، بسبب استقالة الحكومة، فعلى الأقل تجب إعادة التفاوض مع الشركات للحصول منها على عروض مالية أفضل. هنا لا بد من الإشارة إلى أن من كان يحلم بتوزيع طائفي مناطقي للمحطات، سيكون عليه مراجعة الأمر. ثلاث محطات في لبنان هو فضيحة بكل المقاييس، فكيف إذا كان الزمن زمن الانهيار.