بين من يصنع التاريخ ويتحدّى المستحيل ومن يحتفل باستقبال هبة لقاحات!
بوقاحةٍ لا حدود لها، تبارى زعماء الفشل والسمسرة والنهب والخراب والإفلاس بتدبيج التهاني لدولة الإمارات العربية المتحدة لمناسبة دخول «مسبار الأمل» مدار كوكب المريخ… تماماً كما اصطنعوا، في مشهد معيبٍ آخر، مهرجاناً لاستقبال دفعة صغيرة من اللقاحات الممنوحة من البنك الدولي لمواجهة وباء كورونا وتصويره على أنه «إنجاز»، لا بوصفه من واجبات أيّ دولة تجاه شعبها.. إنها ثقافة فبركة الإنجازات والانتصارات الوهميّة من منظومة تتقنُ هذا السلوك المريض الناقص، وتحترفُ التكاذب وبيع الأوهام في كل المناسبات والظروف والأمكنة والأزمنة.
الردّ الأبلغ على «جلقة» المطار جاء على شكل تغريدة من نائب رئيس البنك الدولي فريد بلحاج (الخبير جداً بالشأن اللبناني) سخّفت ما حصل، لكنها عكست بوضوح طريقة تعامل المجتمع الدولي المستجدة مع منظومة الفساد اللبنانية، مؤكداً على المراقبة وتحرّي الشفافية والاستعداد لوقف المساعدات في ما لو مارست الذهنية اللبنانية لعبتها المفضلة في النهب والاستيلاء على المساعدات الدولية ومنحها للمحاسيب والأزلام… والأملُ أن تضاعف المؤسسات الدولية هذا الجهد لمواجهة إبداعات خبراء الفساد هنا في الالتفاف على الاهتمام الدولي واستغلاله لإعادة إنتاج سطوتهم، وما قصةُ السمك والشاي ببعيدة.
الدرس الإماراتي وتحدّي المستحيل
بالعودة إلى الحدث الإماراتي؛ تستحقّ قصة النجاح الإماراتي التنويه والإشادة والثناء، لكن أن يأتي ذلك ممن تربعوا على مؤشرات الفساد والفشل وغياب الشفافية من شأنه أن يسيء إلى الانجاز التاريخي. إذ لا يحق لفاشل في إدارة شأنه العام، ومتفوّق في نهب مال بلاده وقتل شعبه وتجويعه وإفلاسه أن يحاضرَ عن الإبداع والتحدّي والنجاح، فاقتناص لحظات نجاح الآخرين للظهور والقرقعة والجعجعة قمة الإفلاس الأخلاقي.
لا تتعبُ دولة الإمارات من إبهار العالم، ولا ينفك قادتها من مراكمة التحدّي خلفَ التحدي.. ثم الفوز عليه! حتى صنعوا بلداً حديثاً، بهياًّ، متوثّباً، جميلاً، حضارياً، متألقاً ومنظّماً في كل شيء. تنامُ هذه الدولة ومن فيها عن كل ما يشغل شعوب معظم بلدان المنطقة، ويسهر هؤلاء جميعاً ويختصموا في استقرارهم المهزوز، وأمنهم الهشّ، واقتصادهم المتعثر، وتنميتهم المتراجعة، وشفافيتهم المعدومة، وفسادهم المستشري، وتعليمهم المتحجّر!! كيف لدولة عربية أن تفكر في غزو الفضاء، وسعادة المجتمع، ورفاهية المواطن، وحماية التنوع، وإشراك الشباب، وتعزيز البحث العلمي، ورعاية أصحاب الهمم (ذوي الاحتياجات الخاصة)، والاهتمام بالبيئة، والكثير الكثير مما يتعب المرء من سرده؟ ببساطة لأن فيها من أعطى للقيادة مفهوماً آخر يرتكز إلى التفكير الاستباقي وصولاً إلى إطلاق وزارة «اللامستحيل» التي رسم إطارها حاكم دبي، نائب رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الذي غرّد ذات مرّة: «علمتني الحياة أن الخوض الكثير في السياسة في عالمنا العربي هو مضيعة للوقت.. ومفسدة للأخلاق.. ومهلكة للموارد.. من يريد خلق إنجاز لشعبه فالوطن هو الميدان.. والتاريخ هو الشاهد.. إما إنجازات عظيمة تتحدث عن نفسها، أو خطب فارغة لا قيمة لكلماتها ولا صفحاتها».
وتابع: «لدينا فائض من السياسيين في العالم العربي ولدينا نقص في الإداريين. أزمتنا أزمة إدارة وليست موارد.. في عالمنا العربي، السياسي هو من يدير الاقتصاد ويدير التعليم ويدير الإعلام ويدير حتى الرياضة! وظيفة السياسي الحقيقية هي تسهيل حياة الاقتصادي والأكاديمي ورجل الأعمال والإعلامي وغيرهم. وظيفة السياسي تسهيل حياة الشعوب، وحل الأزمات بدلا من افتعالها، وبناء المنجزات بدلا من هدمها».
لبنان والبكاء المرّ
أما لبنان، فقد تحوّل بسبب منظومته الحاكمة من بلد يصدّر الإشعاع والمبادرات والعلم والطب والهندسة، وصناعة الأمل، وخوض التحدّي وتصميم النهوض.. إلى بلد معزول، مفلس، جائع، منهوب، وإلى بيئة خصبة للانقسام والشعبويات، وموضع شكوك المجتمعين العربي والدولي. تصل الإمارات إلى المريخ بموازنة 200 مليون دولار فقط، وفي لبنان يضيع 180 مليار دولار، وتفلس الخزينة العامة، ويتم نهب الودائع الخاصة، وفوق ذلك، لا كهرباء أو مواصلات أو خدمات أو أنظمة صحية أو تعليمية أو خدماتيّة جيدة… ولا من يسال، أو يحاسب أو يوضح!!
للمقارنة بين لبنان والإمارات، وبيروت ودبي أسبابها. قبل سنوات، أصدر الشيخ محمد بن راشد كتاباً حمل عنوان «قصتي.. 50 قصة في خمسين عاماً»، أورد فيه مواقف ومحطات وخلاصات وتأملات هي زبدة تجربة شخصية في الحكم والإدارة والإنماء والتحدي وصناعة المستقبل.
في كتابه يشير آل مكتوم إلى «حلم تردد في ذهني، وهو أن تكون دبي كبيروت يوماً ما»، ثم يمضي ليصف بيروت بأنها «جوهرة الشرق في الماضي.. أذهلتني صغيراً، وعشقتها يافعاً، وحزنت عليها كبيراً».. والواقع أن ما حقتته دبي من نجاح ونمو ليس وليد صدفة، ولا فائض موارد طبيعية، بل نتاج ثقافة وتخطيط وعمل دؤوب، ومراكمة نجاحات، للوصول إلى هدف محدد.. هكذا هي التنمية، متى تحولت إلى سياسات عامة وضعت البلد على سكة النهوض والتميز وانتزاع تقدير وإعجاب واحترام العالم… ووصلت إلى المريخ، لا إلى جهنم.
صنع قادةُ الإمارات لوطنهم وشعبهم تاريخاً يفخرون به، ويواصلون تحقيق الحلم تلو الآخر، أما «قادة» لبنان فيراكمون الخيبة وراء الخيبة.. يفسدون التاريخ والحاضر ويسعون لقتل المستقبل. هكذا يصبح الفرق بين من يجعل من بلده خامس دولة تصل المريخ ويتطلع بثبات ليمنح شعبه الرفاهية والسعادة والأمل، ومن يقودون بلادهم إلى جهنم، ويريدون التمسك بالكراسي ولو على جثث الشعب وبقايا الوطن، إنه الفرق بين المستحيل واللامستحيل، بين الفخر والتحسّر. ويسألونك عن الإحباط والإنجاز، قُل «ليس قدراً» وكفى.