هل فوجئتُ شخصياً بالحكم التخفيفي الذي يكاد يكون تبرئة لميشال سماحة الذي اصدرته المحكمة العسكرية؟ بكل بساطة، لا! فالذين، امثالنا، عاشوا مراحل المحاكم «المدنية» وغير المدنية على امتداد الوصايات، ربما اعتادوا أو نسوا عدم احتمال جمع القانون والعدالة، في بلد حاول كل من وفد إليه وصياً او محتلاً، ان يسيّس المحاكم والقوانين ويصادر القضاة. ميشال سماحة رجل «مرموق«، وله من العلاقات المخابراتية والدولية، ما يجعله «رمزاً» من رموز «الممانعة» والمقاومة «رمزاً» لبنانياً في النظام السوري! اذاً، شخصية في حجم العبقري ميشال سماحة الذي تنقل من أجهزة خارجية إلى أجهزة، من فرنسة إلى سورية، جدير بأن يكون احترامه «السياسي» فوق «احترام» القوانين. ولأن سماحة مرتهن بنظام قام واستمر على القتل وبحزب الهي «فُبرك» ليكون اداة احتلال إيراني للبنان، فمن الصعب أن يعامل معاملة عادية.
أي من الصعب ان تطبق عليه عدالة القانون تطبيقاً قانونياً. انه علامة فارقة عند بشار الأسد وبعضهم يقول انه كان بمثابة «نائب الرئيس» الفعلي في سوريا يُرخي سلطته على الضباط والمسؤولين، باعتباره ظلاً من ظلال آل الأسد قبل الثورة السورية واثناءها. بل هناك من يقولون انه كمستشار مميز للرئيس، كان جزءاً من اعتماد قرار القوة الوحشية، والبطش والمجازر في حلب وسواها. وكلنا يذكر انه كان الوديعة السورية الغالية في حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري الأولى و»الرابوق» برتبة مخبر، الذي لم يوفر وسيلة مزرية ولا أسلوباً سفيهاً ولا كلاماً سوقياً ولا تحاملاً منظماً لعرقلة مشاريع الحريري، حتى انه استخدم الاعلام الرسمي (باعتباره كان وزيراً له) لتشويه الحقائق والمواقف، بأحط الطرق.
بمعنى آخر، كان عميلاً «مَلِكاً« في جمهورية الطاغية. وهذا يعني تماهيه بوحشية هذا النظام، ونياته السود على لبنان. ومن يتذكر «طلعاته» الفاجرة على شاشات الممانعة، وخصوصاً «منار» حزب الله الأسود ودفاعه المستميت عن النظام السوري ومحاولته تضليل التحقيق في سياق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ومواقفه العدائية من ثورة الأرز واتهامها كزميله العميل فايز كرم بالعمالة لإسرائيل والأكاذيب التي كان يروجها، من يتذكر كل ذلك، يعرف، او يتكهن ان هذا الرجل لا يردعه شيء عن ارتكاب «أي شيء». فمن يتواطأ مع القتلة ومن يَخُن بلاده وأهله ويحرض على الضحية، يحمل في داخله، واكتساباته وتجاربه أكثر من بذور القتل أو الجريمة.
كل ذلك، منحه «هالة» الكبار (وعميل الكبار كبير، وعميل الطغاة طاغية) بحيث بات ضرورة عند آل الأسد وحزب الله وهما من مُصدري «القديسين» و»الوطنيين»…. والعملاء!
وعلى هذا الأساس لم يفاجئني دوره عند كشف مخططه الاجرامي ونقله المتفجرات «الأسدية» إلى لبنان واستخدام ميلاد كفوري، لتفجيرها في الافطارات السنية ووضع لائحة اغتيالات تعرف من اسمائها ان نجاحها يعني «الفتنة» والدم والحرب والمذهبية والفوضى. من البطريرك الراعي إلى المفتي الشعار، إلى النائب خالد الضاهر فإلى النائب معين مرعبي… لكن الخطة الإرهابية (الوافدة من نظامين ارهابيين: سوري وإيراني) فشلت، ونجا منها مئات اللبنانيين، ليس لأن سماحة «غيّر رأيه» أو راجع ضميره الانساني أو الوطني بل لأن الظرف المعاكس عطل كل شيء، بل لأن الشهيد وسام الحسن عطلها، وقبض على المجرم.
ها هو المجرم، الارهابي اذاً. بدون رتوش، ولا مجاز أمامنا! في شريط حي، بالصورة والصوت و«الصُبير« والعصير.. والشراهة! معترفاً بجريمته، تفاصيلها وحيثياتها واسماء الضحايا والأمكنة وكذلك بدور بشار الأسد وعلي المملوك «الرئيسي والأساسي قراراً وتنفيذاً….» .
لم يعد من مجال للتأويل، أو للتفسير، فكلام سماحة تفسير التفسير، وتأويل التأويل، وبيان التبيين.
[ميزان المحكمة
قلنا عندها، لقد وقع! وسينال جزاءه القضائي. كل الناس، توقعت محاكمة عادلة، في مستوى ان تكون المحكمة محكمة وأن يكون ميزانها عادلاً، لكي يكون سماحة «عبرة» لسواه! واذا كان سماحة لم يفاجئني بنزعاته الإجرامية والوحشية، فقرار المحكمة العسكرية، بتخفيف الحكم عليه، لم يفاجئني كثيراً. فعندما تضيع محاكمة قتلة وسام عيد (ويختفي ملف الشهيد وسام الحسن)، ويبرأ قاتل الطيار اللبناني في سُجد على يد مجرم من مجرمي حزب الله، وعندما يعتبر حزب سليماني ان المتهمين بقتل الحريري هم «قديسون» ابرار (عند ربهم يرزقون)، وعندما تطمس قضية اغتيال القضاة الأربعة في صيدا… وعندما يخفف الحكم الصادر بحق العميل الاسرائيلي فايز كرم، فمن غير الطبيعي أن نفاجأ بحكم المحكمة العسكرية ذات الصيت الذي يربطها بالعضومية، وبالنظام الأمني المشترك وببعض القوى المهيمنة بسلاحها الميليشيوي الايراني في لبنان. فالمحكمة العسكرية لا تصلح أساساً من حيث مبدأ فصل السلطات لمحاكمة سماحة أو سواه، فهي وجدت أصلاً لأمور تخصّ المؤسسة العسكرية لا المجتمع. وكما لا تصلح الشرطة العسكرية لتحمل مسؤوليات مدنية فالمحكمة العسكرية مثلها! فما بالك، إذا انحازت هذه المحكمة لفريق سياسي دون الآخر. اذاً محكمة عسكرية مُسيسة بكل بساطة. محكمة عسكرية تمارس «وظيفة» ليس من شأنها.
وإذا كان البعض انتظر ما خرجت به هذه المحكمة. ولا يتوقع شيئاً آخر فان الخبر نزل نزول الصاعقة على اللبنانيين، وعلى أهل عكار تحديداً وعلى المُستهدفين. أين نعيش نحن اليوم في لبنان، ومن هم هؤلاء «القوم» الذين حولوا ميلاد كفوري إلى «عقل مدبر» وميشال سماحة (ومَن وراءه إلى منصاعين لهذا العقل؛ بل الذين حولوا «الغبي» كفوري (كما وصفه سماحة) عبقرياً في الجريمة والتخطيط، وميشال سماحة «غبياً» مخدوعاً ساذجاً، بريئاً استدرجه هذا الأخير و»لعب بعقله» لتنفيذ المخطط الفتنوي؟ من قَلَب الأدوار؟ من «حجب» التسجيلات عن المحكمة؟ من حاول ابعاد «المعلومات» التي اكتشفت المحاولة عن التحقيقات؟ انه سياق كامل من ذهنية التضليل الرائجة في محور الممانعة. بل هي من الصور الاسترجاعية لمحاكم التفتيش، والطغاة والأنظمة الاستبدادية التي تستخدم القوانين لضرب العدالة وقمع الشعوب.
[المصادفة
والمصادفة المعبرة، هي تلازم اصدار الحكم المخفف عن سماحة، وانعقاد جلسات المحكمة الدولية. محكمة عسكرية تخلط السياسي بالقانوني، واخرى دولية هي مدرسة في اصول المحاكمات. انه الفارق الكبير بين عالم بلا ضوابط وآخر يبحث عن الحقيقة. بين محكمة مُعسكرة تنتقي من الأدلة ما يخدم انحيازها، وأخرى تُمحّص في الادلة، والوقائع والتواريخ. ولا يصدمنا أن تعبث المحكمة العسكرية بمصائر الناس، فتحظى بالتأييد والتهليل من قِبَل المتهمين بقتل الحريري، وبين المحكمة الدولية التي تلقّت من البذاءات، والتشويه، والتنكيل، ما يصورها محكمة إسرائيلية أميركية إلخ؛ وكلنا يتذكر كم من مرتزق أمّي، جاهل، تافه، أطل على الشاشات، وتأبط أحذيته القذرة، وأقدامه الموحلة، وأصابعه الملطخة بالدماء، ليشتم بالأحذية والأقدام والأصابع هذه المحكمة الدولية. (وآخر ما وصلنا محاولة حزب الله مطوّب المجرمين قديسين، منع تمويل المحكمة من قِبَل الحكومة! إجرام طالع من مجرمين!).
[حمود المتوقد
وعندما تابعنا عدداً من جلسات الشهود في المحكمة الدولية، وآخرها شهادة الزميل هاني حمود، تأكدنا من الفارق بين محاكم عضوم وإميل لحود والمحكمة الدولية. وهنا لا يمكن سوى التوقف عند المطالعات والحقائق والخفايا، والأسرار، التي كشفها حمود، وأهمها «التكامل» بين حزب الله (إيران) وبين النظام السوري. وهذه الحقائق المتكهنة بعمومياتها، فنّدها حمود، وعرضها بتفاصيلها بأسلوب دقيق، مكثف، لامع، موجز وفاعل، لا لبس فيه، ولا تورية. إنه هاني حمود، اللماح واللامع والمتوقّد، أضاء على هذه العلاقة العضوية بين النظامين الإيراني والسوري، في مقتلة الحريري. وأحسست وأنا أتابع هاني حمود بهذه المسحة من الأسى على قسماته ووجهه، كأنه وهو يروي ما يعرفه، يعيش من جديد تلك الاسترجاعات بهذا الأسى العميق المعيش. كان أكثر من شاهد، كان الشاهد الذي ظهرت على وجهه كل التراجيديا التي مرّ بها الحريري، في أيامه الأخيرة، عندما حاصرته التهديدات من كل صوب من حزب الله إلى النظام السوري، غاص في دواخل الحريري، وفي حُجُب تلك الأيام التي سبقت استشهاد الرئيس الشهيد، الذي رافقه حمود وأحبه. فالمحبّون لا يعيشون المآسي بعقولهم فحسب، بل بحواسهم وقلوبهم. هذا ما نضحت به ملامح حمود.
[المصادفة
ونظن، أن تُصادف قرار المحكمة العسكرية تخفيف الحكم عن السفاح سماحة، وانعقاد المحكمة الدولية، كأنهما فصلان من مسرحية واحدة، أو حدثان من رواية واحدة: مفتوحان على بعضهما، ومتصلان كالأوعية المستطرقة: والمشترك بينهما أن من قتل الحريري هو عينه الذي خطط عبر سماحة لارتكاب مجزرة جماعية في عكار، وطرابلس؛ والذي اغتال الرئيس الشهيد ورموز 14 آذار، هو مهندس اغتيال جورج حاوي، وجبران تويني، وسمير قصير، وبيار أمين الجميل، ووسام الحسن، ووليد عيدو وأنطوان غانم، (ومحاولة تصفية مروان حمادة والياس المر وصولاً إلى بطرس حرب وسمير جعجع). حلقتان متصلتان برزتا متكاملتين بل أكثر: إن من يرتكبون المجازر والمذابح ضد الشعب السوري، من حزب الله العميل الصدوق لإيران (تماماً كما هو سماحة بالنسبة إلى آل الأسد)، هم ذاتهم، من صادروا لبنان، ومحاكمه، واقتصاده، وحرياته، وشعبه، ودولته، ومصيره! وهم الذين عاثوا فساداً وإجراماً واغتيالاً وتقسيماً وتخريباً. وهم حملة المشروع الايراني التخريبي في البحرين واليمن والعراق وسوريا… ولبنان!
[لقاء القتلة
غريب كيف تلتئم الظواهر بهذه العلاقات المتماثلة في زمن واحد؟ ميشال سماحة + علي المملوك + رستم غزالة + خامنئي + حزب الله + بشار الأسد، هم أبطال الخراب والتخريب والبربرية، والوحشية: والمشترك بين هؤلاء كلهم، 1) تنفيذ ما عجزت عنه إسرائيل من تقسيم وتفكيك، وتدمير للبنان والعالم العربي، 2) العداء لإرادة الناس واستخدام المحاكم والسلاح والتضليل، والترهيب لتسود هيمنتهم، 3) وأهم مشترك بينهما الإرهاب اللامع بالقتل. كل هؤلاء الفرقاء هم ورثة ما تبقى من فلول الطغاة، من هولاكو إلى حافظ الأسد إلى بول بوت إلى هتلر إلى بينوشي. هم «خلفاء» التاريخ الأسود في القرون الماضية، 4) وما هو مشترك، وكثيراً وعميقاً، التحالف الاستراتيجي القائم بين هؤلاء والكيان الصهيوني. فالنظام السوري «أهدى» الجولان إسرائيل مقابل بقاء وجوده، والثانية (إيران) تدأب على إنجاز المخطط الصهيوني، عبر محاولة تحقيق الهلال «المذهبي«، لتقسيم الأمة العربية، وتهميش الأكثرية الإسلامية والعربية، بموافقة ضمنية من أوباما وقبله بوش!
من هنا تفهم جيداً العلاقات المفصلية والأدوار المشتركة بين اغتيال الحريري ورموز 14 آذار و7 أيار، وبين متفجرات سماحة المملوك الأسد. ومن هنا تابعنا «المحكمة» الدولية، بتقدمها في الأدلة، وانتقالها من مرحلة إلى مرحلة: القادمة تتصل بداتا الاتصالات، وكذلك قرار المحكمة العسكرية: وكان من الصعب الفصل بين حالتيهما، بل أكاد أقول إنهما حققا في جريمة واحدة، وبفضاء إرهابي واحد، أبطاله من عصابة واحدة، ومن نظامين واحدين، شقيقين بالدم والخيانة.
[إعدام رجل ميت
وإذا كان نظام الأسد في أرماقه الأخيرة يُصفي «تركته» عبر التخلص من أدواته، وعملائه، خصوصاً ذوي «الشبهة» بعلاقتهم باغتيال الحريري، وعلى رأسهم رستم غزالي هذا اللص، المبتز، القاتل، الحقير، الذي أهداه حسن نصرالله بندقية المقاومة تقديراً لجرائمه بحق اللبنانيين وهذا دليل على لقاء السلاحين، فإن هذه التصفية قد تطاول كثيرين ممن يعرفون كثيراً. وقالها اللواء أشرف ريفي، هذا الوطني اللبناني العروبي الشجاع، عندما أعلن أن النظام السوري قد يُصفي ميشال سماحة نفسه كما فعل بالعديد أمثاله باعتباره احد الصناديق السوداء للنظام.
لكن ميشال سماحة سواء خفف حكمه أو صدر حكم بإعدامه أو بسجن المؤبد، أو بسنوات كثيرة فهو «رجل» منتهٍ، إذا أعدم فكأنما أعدم «رجل ميت»، وإذا سُجن طويلاً فكأنما تسجن جثة… ونظن أن سماحة لم يسقط عبر اكتشاف دوره في التخطيط للفتنة، بل سقط عندما اختار خدمة الطغاة، وأعداء بلده، والقتلة: كأن اختياره هذا لم يكن أكثر من «النزول إلى الجحيم»، والجحيم يبدأ لحظة الوقوع فيه… وإن كان في البداية مزداناً بالورود والسلطة والأبهة والمال… والعظمة «الممنوحة» من أهل الفساد والقتل!
فأي حياة يا ميشال هذه، عندما يكون «فردوسك الأرضي» يتمثل بهذا الجنوح المفلت نحو الشر، والخيانة، والإجرام!
إنها نهاية رجل ميت!