Site icon IMLebanon

ماذا يقصد لودريان بـ”نهاية لبنان السياسي”؟

 

 

تنشغل القوى السياسية في البحث عن الخلفيات التي تدفع وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى إطلاق التحذيرات المتتالية من زوال لبنان كدولة؟ فهل يمتلك الفرنسيون معطيات تؤكد أن البلد مهدد فعلاً بانهيار سياسي وإداري بعد الانهيار المالي والنقدي، أم انّ الهدف من التحذيرات هو إخافة الجميع ودفعهم إلى التراجع عن سقوفهم العالية والقبول بالحوار؟

عند وقوع الانهيار في لبنان، خريف العام 2019، حاول رئيس الحكومة حينذاك سعد الحريري طلب المساعدة من باريس وبعض الجهات العربية لتجاوز المأزق، خصوصاً أن العام الذي سبق، 2018، كان قد شهد مؤتمر «سيدر» الذي خصّ لبنان بمساعدات وقروض قيمتها 11 مليار دولار.

 

ولكن، في الواقع، لا الفرنسيون ولا العرب كان «مسموحاً لهم» تقديم الدعم. فالقرار الأميركي كان قد اتخذ بحظر المساعدات عن لبنان حتى يوافق على تطبيق الإصلاحات المطلوبة منه دولياً. وهذه الإصلاحات لها طابعها السياسي. فليس خافياً أن المطالبة بها هي جزء من عملية التطويق التي تستهدف إيران وحلفاءها. لذلك، لم تستجب الحكومة اللبنانية لهذه المطالب.

 

الفرنسيون أدركوا أن لبنان قد يذهب ضحية الصراع المحتدم بين واشنطن وطهران. وفي المرحلة الأولى، ضمن اجتماعات اللجنة الثلاثية، الأميركية – الفرنسية – البريطانية، تباينت آراء الطرفين في التعاطي مع الأزمة اللبنانية. لكن باريس أدركت أن لبنان أعجز بكثير من القدرة على الصمود، إذا تصاعد الصراع الأميركي – الإيراني على أرضه.

 

ولذلك، كانت نصيحة الفرنسيين للبنان هي التعاطي بمرونة مع مطالب الإصلاحات الدولية. فربما يتيح ذلك تجنيب البلد كارثة السقوط في هاوية لا قعر لها، ولا أحد يعرف ما ستقود إليه. وفي هذا السياق، أبلغ لودريان إلى المعنيين خشيته من انهيار لبنان تحت وطأة الصراع الإقليمي.

 

في آب العام التالي 2020، بعد أيام من انفجار المرفأ، جدّد لودريان تحذيره من «زوال الدولة اللبنانية» إذا تمادت القوى السياسية في رفض الإصلاحات. وفي العام 2023، كرّر التحذير إيّاه، مستغرباً إصرار القوى السياسية على رفض الجلوس إلى طاولة حوار. وقبل يومين، عاد إلى الطرح إيّاه، في ختام زيارته لبيروت، إذ قال ما معناه: إذا لم يسارع اللبنانيون إلى بناء المؤسسات، بدءاً برئاسة الجمهورية، فإن «لبنان السياسي» سيزول، ويبقى «لبنان الجغرافي». وهذه هي المرة الأولى التي يقدّم فيها لودريان تفسيراً إضافياً لطبيعة المخاوف الفرنسية على لبنان: سياسية لا جغرافية.

 

ما يرشح من الأوساط الديبلوماسية المطلعة على الموقف الفرنسي هو أن باريس تمارس لعبة التخويف فعلاً لدفع الأطراف إلى تقديم التنازلات والتلاقي على تسوية، لكن مخاوفها ليست وهمية، ولبنان معرّض لمواجهتها إذا تمادت القوى المعنية في المغامرة، فيما الشرق الأوسط كله مُقبل على استحقاقات ستغير الكثير من الوقائع داخل الكيانات القائمة حالياً.

 

يعتقد الفرنسيون أن تعذّر بناء المؤسسات، بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية ثم تشكيل حكومة فاعلة تتبنى برنامجاً إصلاحياً واضحاً، سيودي بلبنان أكثر فأكثر إلى الاهتراء والفوضى. وفي ظل المواجهات والتداخلات الإقليمية، سيزداد تفكك لبنان السياسي والإداري، ما يذكر بالواقع الذي ساد هذا البلد في بعض مراحل الحرب الأهلية.

وصحيح أن المجتمع الدولي سيمنع تقاسم لبنان جغرافياً ويحول دون انهياره ككيان موحد، لكن أحداً في الخارج لا يستطيع إنعاش الدولة المحطمة والمهترئة وإعادة بناء مؤسساتها الشاغرة أو المشلولة. وسيكون الوضع أكثر سوءاً إذا طالت الحرب في غزة أو اندلعت أي حرب أخرى في الإقليم، لأن اللبنانيين سيجدون أنفسهم جزءاً من هذه الحرب، ما داموا جزءاً من هذا المحور الإقليمي أو ذاك.

 

ما يخشاه الفرنسيون ليس تفتيت لبنان أو تقسيمه، كما تصوَّر البعض في مراحل معينة من الأزمة، بل تغيير العقد السياسي القائم تاريخياً بين اللبنانيين وسقوط الجمهورية التي ساهموا في إرسائها.

 

فالفراغ الواقع اليوم في مقام الرئاسة الأولى، وشلل الحكومة وغالبية المؤسسات الأخرى، سيسمحان بسيطرة الأطراف القوية على الدولة القائمة حالياً. وهذا يؤدي إلى زوال الهوية السياسية المعروفة للبلد، في شكل كامل، وتثبيت هوية جديدة. وهذا هو المقصود بتغيير «لبنان السياسي».

 

وتزداد نسبة المخاطر بالتوازي مع انزلاق لبنان إلى الحروب الإقليمية. ففي العام 2019، كان هناك رئيس للجمهورية وحكومة سياسية فاعلة ومؤسسات وأجهزة عسكرية وأمنية قوية، وكان مصرف لبنان يمتلك قدرات كبيرة ومعه قطاع مصرفي ناشط. ومع ذلك، وقع الانهيار بشكل مريع، ولم يستطع لبنان أن يتجنّبه أو ينجو منه، لأن أحداً في العالم لم يرغب في تقديم المساعدة من دون الحصول على ثمن. وأما اليوم فالوضع أكثر سوءاً في كل المجالات. وهذا يعني أن لا مجال لخروج اللبنانيين من الهاوية، حتى إشعار آخر، أي حتى تتلاشى تماماً الجمهورية الحالية وتنشأ جمهورية أخرى على أنقاضها. ولذلك، ليس سهلاً على الفرنسيين منع سقوط «لبنان السياسي» الذي ساهموا في نشوئه.