Site icon IMLebanon

نهاية «سوريا المفيدة»

منذ عام 2013، صار في مقدور أيّ مراقب «محايد»، ومطّلع على القليل من الحقائق العسكرية الميدانية والسياسية، أن يُدرك أن مسار إسقاط سوريا في أيدي القوى التي أرادت الهيمنة عليها لم يعد تصاعدياً. في كل مرحلة، كانت المعارضة السورية ورعاتها يخترعون سردية جديدة، إما لتبرير فشلهم، أو لاستمرار التبشير بقرب السيطرة على دمشق. إحدى سرديات «تعزية النفس» استخدمت مصطلح «سوريا المفيدة»، في الخطاب المعارض للرئيس بشار الأسد.

بُنيت تلك السردية على تهمة مفادها أن الأسد وحلفاءه يريدون تقسيم سوريا، والاحتفاظ حصراً بشريط يمتد من دمشق إلى الساحل. تحرير حمص يعني، وفق السردية نفسها، الحفاظ على هذا الشريط لا استعادة قلب سوريا. وأي اتجاه نحو البادية هو تحصين لـ«الكوريدور». أهمية الحدود الدولية ليس لأنها حدود، بل لأنها «متنفّس» لـ«الكانتون». وبطبيعة الحال، كانت التهمة الطائفية حاضرة لتُسبَغ على مخططات الأسد. حتى مسعى الوصول إلى الحدود العراقية كان في نظر ماكينة الترويج لمصطلح «سوريا المفيدة» هدفاً تقسيمياً إلى حدّ ما: فتح طريق يصل بين «الغيتو العلوي» و«الإقليم الشيعي» في العراق. من جهة، أرادت هذه السردية أن تُثبت في لاوعي المتلقّي «حقيقة» أن الأسد لن يحكم سوريا مجدداً، وأنه ضعيف إلى حدّ أن كل هدفه هو الدفاع عن جزء صغير من أراضي بلاده. ولأجل ذلك، تم تجاهل حقيقة وجود الجيش السوري في القامشلي، في أقصى الشمال الشرقي لسوريا، وفي دير الزور، وقتاله حتى الرمق الأخير في شمالي حلب. والقامشلي، بالمناسبة، تبعد عن دمشق، «خط نار»، بُعد الأخيرة عن… مدينة القاهرة!

لم تبقَ السردية مجرّد كلام في الهواء. أقيمت لأجلها ندوات وورشات عمل وحوارات صحافية، وكُتِبت مقالات ودراسات وتقارير، ورُسِمت خرائط. يكفي ضرب كلمتي «سوريا المفيدة» على محرّك للبحث على الانترنت لتبيان الكمّ الهائل من الضخّ الهادف إلى جعلها حقيقة مطلقة. ماذا عن دير الزور؟ غابت عن تلك السردية المدينة التي يحاصرها «داعش» منذ أكثر من 1400 يوم، ويهدّد عشرات الآلاف من أهلها بالإبادة. هي محاصرة لأن «النظام» لم يجد سبيلاً للهرب. فما فائدة البقاء في دير الزور لـ«سوريا المفيدة»؟ هذا ما أرادوا أن يبقى في الذهن عنها.

مروّجو نظرية «سوريا المفيدة» ليسوا مقتنعين، بطبيعة الحال، بأن الأسد يضع أولويات للحرب. وتخلّي الجيش عن موقع ليس تنازلاً عنه، بقدر ما هو التزام بضرورات المعركة. والمعركة في الشام ليست نزهة على الإطلاق. يندر أن تجد، في التاريخ الحديث على الأقل، دولة شبيهة بسوريا: كل حدودها الدولية كانت، في سنيّ الحرب الأولى، معادية لها. حتى الجزء الأكبر من الحدود اللبنانية، بقي معادياً حتى عام 2013.

اضطر ذلك الأسد إلى اتخاذ قرار الانسحاب من مواقع عسكرية، ومن مناطق شاسعة، بسبب الأولويات الظرفية لا لأهداف انعزالية. ومن المفيد هنا قول معلومة بسيطة، تريد آلة الدعاية طمسها: من يملك قرار الحرب في سوريا هو بشار الأسد. يحدد الأولويات وله الكلمة الأخيرة في أيّ اقتراح يقدّمه حلفاؤه. عندما أتى إليه الجنرال قاسم سليماني عارضاً الذهاب نحو الرقة قبل سنتين ونصف سنة، قال له الأسد إن الأولوية في مكان آخر. وكان محقّاً. تحصين دمشق يتقدّم على ما عداه. وعندما عُرِض عليه الانسحاب من دير الزور، أبى ذلك. لم يكن البقاء في دير الزور (وفي القامشلي) وجوداً رمزياً وحسب، بل رغبة في استعادة وحدة سوريا. ليس الحديث عن الأسد هنا مديحاً له، بل توصيف لوقائع يرفض معارضوه الإقرار بها، رغم أن مَن كان كبيرَهم لسنوات، أي روبرت فورد، صار يملك حكمة من فوّت الفرصة، وبات يدرك أن سوريا ستعود موحّدة، في ظل حكم الأسد. والوصول إلى دير الزور ليس سوى خطوة على هذا الطريق. رمزية فكّ الحصار عن الدير أمس تكمن في إسقاط أسطورة «سوريا المفيدة». والذين نسجوا تلك الأسطورة، سيُنكرون الواقع مجدداً، لينشروا خرافة جديدة. هذه المرة، سيخبرون الجمهور أن «مناطق خفض التصعيد» ليست سوى صيغة جديدة من صيغ التقسيم. لن يعترفوا بأن الأسد قبِل بتلك المناطق ليعزز موقعه، على طريق تحقيق الهدف الذي لن يتركه حلفاؤه قبل بلوغه: سوريا ستعود موحّدة، طالت الحرب أو قصرت. وهذا ليس شعاراً. ثمة برنامج عمل أُعدّ، ويجري تنفيذه. من لا يصدّق، فليراجع الخرائط، وليقارنها اليوم بما كانت عليه قبل سنتين؛ أو، ليسأل روبرت فورد.