كشفت الانتخابات البلدية الأخيرة أمراً خطيراً للغاية وهو سقوط السياسة بسبب عجزها عن إدارة الشأن العام وفسادها المزمن.
لا الشعارات الطائفية التي رفعها البعض ولا «توحيد الصفوف» بين متخاصمي الأمس سمَحا بتأمين التعبئة المطلوبة لخوض هذه المعركة.
لقد بلغنا مع هذه الانتخابات نهاية مرحلةٍ تاريخية بدأت في ستينيات القرن الماضي، وتميّزت بانبعاث قوى سياسية طائفية حلّت محلّ تجمّعات سياسية كانت عابرة للطوائف والمناطق.
إنّ تطييف الحياة السياسية، الذي فاقمته الحرب الأهلية، ما كان بوسعه أن يُفضي إلّا إلى عنفٍ موصوف: عنف داخل كلّ جماعة طائفية أو مذهبية لتعيين الحزب أو الزعيم الذي ينطق باسمها، وعنف في ما بين الأحزاب والزعامات الطائفية لتعيين حصة كلّ منها في الدولة.
وقد دفع هذا الأسلوب في التزاحم والتدافع تلك الأحزاب والزعامات الى الاستعانة بالخارج طمعاً في الاستقواء به على الداخل. والحال أيضاً أنّ محاولات الاستقواء والغلبة تلك صيَّرت الجميع أدواتٍ طيّعة في يد الخارج. وهذه نتيجة منطقية، إن لم نقُل حتميّة، لا تحجبها ادعاءاتٌ من هنا ومكابراتٌ من هناك.
وأخطر ما كان في تطييف الحياة السياسية والاستعانة بالخارج أنه جعل لبنان يعيش حالةً أشبه ما تكون بالحروب المتواصلة، تخلَّلتها فتراتٌ من الهدنة، طالت أو قصرت. فبعد الحرب الأولى عام 1958، شهد لبنان حرباً ثانية عام 1975 امتدت على خمس عشرة سنة.
إلى ذلك تعرّض هذا البلد لخمسة اجتياحات إسرائيلية في مدى ثلاثة عقود، كما شهد في الفترة ذاتها تركّز السلاح الفلسطيني على أرضه بعد اتفاقية القاهرة (1969) واحتلالاً إسرائيلياً (1978- 2000) وهيمنة سورية كاملة على الدولة اللبنانية (1990 – 2005).
كان أيضاً من شأن تطييف الحياة السياسية أن شلَّ قدرةَ الدولة على القيام بواجباتها البديهية، فأضحت في نهاية هذا المسار الانحداري عاجزةً عن ضمان الاحتياجات الأساسية للمواطنين، من ماء وكهرباء واتصالات ومواصلات وغير ذلك وصولاً إلى العجز عن إخلاء النفايات المنزلية… كلُ ذلك بفعل استشراء الفساد والزبائنيّة في قطاعات الخدمة العامة باسم «الدفاع عن حقوق الطوائف»، الأمر الذي أطلق حراكاً مدنياً عفوياً، ساخطاً وكافراً بكلّ رموز السلطة دونما تمييز.
وإذا كان هذا الحراك قد أُجهض سريعاً، لأسباب من داخله وخارجه، إلّا أنه أطلق صرخة مدوية في وجه طبقة سياسية عجزت بصورة فضائحية عن القيام بأبسط واجباتها في حماية الدولة ومؤسساتها.
وقد جاءت الانتخابات الأخيرة لتُجدّد صرخة هذا الحراك وتؤكد حقّ الناس في أن يعيدوا الاعتبار الى السياسة بوصفها نشاطاً نبيلاً في خدمة المواطن والشخص الإنساني، وبالتالي تحريرها من قبضة أحزاب تتسابق على الدعوة الى كراهية الآخر، ورفض العيش المشترك في زمن باتت تجربة لبنان نموذجاً ينبغي الاقتداء به.
إنّ إعادة الإعتبار إلى السياسة باتت اليوم شرطاً اساساً لحماية لبنان من المخاطر التي تتهدّده وشرطاً لاستعادة دوره في رسم معالم المستقبل في منطقة تبحث عن سبل مواجهة الكوارث التي حلّت بها نتيجة هذا العنف الذي تشهده سوريا.