IMLebanon

آخرة النظام

9 آذار 2016

أمراء لبنان يولدون مسلمين، ويعيشون دروزاً، ويموتون موارنة“.

فيليب حتي

في ذروة حرب 1975 – 1976 أدلى الرئيس سليم الحص ببيان رسمي قال فيه إن المهم هو المحافظة على “النظام اللبناني”. يومها بدا البيان كأنه آتٍ من وادي الخيانة بالنسبة إلى بابل من الأصوات (والمدافع) الهاتفة ضد الامبريالية والرأسمالية والذيلية والليبرالية الاقتصادية والميثاق الوطني والسلم والوحدة الوطنية وما إلى ذلك من أعداء.

سليم الحص، استاذ الاقتصاد السابق في الجامعة الاميركية، كان رجل دولة وخلق، ينتمي إلى فريق الضمير والعقل، فيما الجثث تتطاير في الهواء، والطرق تقطع وتسدّ، وتجارة القتل تزدهر وتتكاثر من أجل تبديد كل ما بني. كان سليم الحص يعرف، بالعلم والتجربة والعقل، أن “النظام” هو الضمانة الوحيدة لبقاء ما تبقّى بلد مثل لبنان، تذروه رياح الأرض وتغمره اغضاب السماء.

الاستاذ الجامعي السابق، نشأ في محيط قومي، ولكن يرى ماذا حدث للدول العربية التي قررت أن تقلّد المانيا الشرقية بدل المانيا الغربية، ورومانيا تشاوشيسكو بدل فرنسا شارل ديغول. حدثت لمصر وسوريا والعراق كثرة الفاقة والبطالة، والتراجع الذي صدأ الاتحاد السوفياتي. ثلاث دول كبيرة تغذيها ثلاثة أنهر عجيبة من الخصب، وباقي الثروات، افتقرت إلى نظام مصرفي يدير شؤون أهلها، ومنعتهم من السفر بأكثر من مئة دولار. وكان على من بقي في الداخل أن يتحايل كل يوم للدوران حول نظم وقوانين أثبتت فشلها في كل مكان.

لكن المسألة ليست هنا. ليست في رؤية سليم الحص، على تلقائيتها وبساطتها، وإنما في انقسام لبنان بين أقلية من رجال الدولة، الواقفين مع لبنان واسترداده عن حافة الهاوية، ومجموعات مهووسة بالدم والخراب وحاصل التجارة بهما.

تنقسم الأمم، دائماً، رجال دولة ورجال سياسة. أي ضمائر وديماغوجيين. والديماغوجي كلمة يونانية شرحها ما يأتي: “الزعيم السياسي الذي يتوسل التأييد بمخاطبة الرغبات والتحاملات الشعبية بدل اللجوء إلى الجدل العقلي”.

تقوم السياسة على الالتواء والخداع وتملق صغار الافكار وقصار المشاعر. وهي تقاسم ومبادلات ومقايضة وشركة في الاستثمار، وليس في العمران. وأما رجل الدولة فعمله قائم، في المسؤولية وخارجها، على علاقته مع الدولة والوطن. لذلك، يكون متورعاً ونزيهاً وعاقلاً، ولا يكون شيئاً آخر، مهما تبذل الآخرون أو كثرت المغريات أو تثاقلت الضغوط.

النزاهة ليست ادعاء وقحاً ولا لصقة. إنها مسيرة خالية من الفساد ومن الخداع ومن الشطط. ومن الهياكل العظمية. أما الذين يبحثون عن مبررات، فإن كل ارتكاب، يُعدّ له المبرر سلفاً. والذين يعدون الارتكاب والمبرر معاً، ليسوا في حاجة إلى مهارة أو ذكاء. إنهم يعتمدون في جميع العصور والأزمان والبلدان على عنصرين أساسيين: أما غباوتك وإما خوفك. إنهما جوهر التواطؤ.

ليس صحيحاً أن الاصرار على الكذب والاكثار منه يحوله إلى حقيقة. اخترع جوزف غوبلز هذه المعادلة، لكنه لا يزال ساقطاً تحت حملها. لم يدخل التاريخ رجل بلا ضمير إلا من باب الشر. طبعاً بول بوت دخل التاريخ معلّقاً ثلاثة ملايين جمجمة حول عنقه. لكن تواريخ الفردوس الإنساني معقودة لمانديلا، وغاندي، ولنكولن، والبرت شفايتزر، والأم تيريزا، وجبران خليل جبران، وبيل غيتس، وإيفا بيرون، وسائر السرب.

أدت ثورة الربيع العربي في تونس، إلى ما أدت إليه الثورة الفرنسية في اوروبا. خافت الجيوش الانظمة من الريح الصافرة. بعد سقوط بن علي، لعلع الجار الليبي من خيمته: ماذا حدث يا اخوان؟ الأخ بن علي حاكم جيد. وبعد تونس، ليبيا ومصر واليمن والعراق وسوريا. الأنظمة القائمة على الآحادية و “الحق الإلهي” مثل البوربون، تساقطت أمام بائع ثمار معوز.

بقي النظام اللبناني، على هشاشته وعطبه، خارج بيوت الورق المتداعية. فهو قائم على السعة في السياسة وفي الاقتصاد. وعلى رغم الاقطاع والتوريث، فهو ليس حزباً واحداً مثل تونس أو مصر أو ليبيا أو العراق. وفي الاقتصاد بقي صامداً على رغم الخنق المعلن وعلى رغم المخالفات المريعة التي فاقت مخالفات الحرب وموانئها ومازوتها والنفايات السامة المستوردة – بعكس ما هي الآن، نفايات وطنية حتى بسمومها.

هل انتهى النظام الذي عبرنا به مرحلة الحرب والاحتلال والدمار؟ هل المطلوب من اللبنانيين اليوم أن يرموا جانباً ايضاً النظام البرلماني والعمل الدستوري وصيغة البقاء دفعة واحدة: إما أن ينتخبوا رئيساً لا يملك اكثرية نيابية مطلوبة، وإما أن يبقوا بلا رئيس؟ لم يحدث هذا المأزق من قبل في أي مكان. ففي الاستفتاءات الشعبية يمكن أن يفوز الرئيس باكثرية 99,999% بكل بساطة. صدام حسين جعلها مئة في المئة، اختصاراً للوقت والتعب. وعلي عبدالله صالح كان ماكراً المكر البديع: جعلها 86,66% وذهب ينام. واللهِ مقنع يا فخامة الفريق. وديموقراطي.

ها هو اليوم يقتلع اليمن حجراً حجراً من أجل أن يعود. كل تعهد وقّعه وكل ورقة وقّعها رماها في ما رمى. ما اكثر القمامات في العالم العربي. هل تشاهدون آلاف البشر الذين ينقبون في القمامات عن بقايا طعام؟ عن بقايا حِرام؟ هل تشاهدون الأطفال يحاولون أن يتنسّموا لحظة ليس فيها قتل وخراب ودخان أسود سام وموبوء وبلا اي رحمة بشرية؟

يأخذ اليساريون السابقون على ميشال شيحا أنه اراد أن يبني بلداً من مرفأ ومصرف. صحيح. لأنه خاف أن يصل اللبنانيون إلى يوم يتحاربون فيه على عصابات المرافىء. أراد بلداً فيه ازدهار واعمال ووظائف ومدارس وكفاية. وكان أول وأعمق من كتب في القضية الفلسطينية من أجل ألا تسقط في ايدي الغوغاء والسماسرة الذين مزقوها قطعاً وقطاعات في ما بينهم. أخشى أن عصر الدساتير والرؤى والفكر والهم الوطني العام، قد مضى. ماذا فعل ميشال شيحا؟ أعطي بلداً هذا حجمه، وهذا موقعه، وهذه مكوناته، فراح يبني له دستوراً جامعاً. وقبل زمن طويل من وجود ثلاثة ملايين نازح، قال شيحا إن هذا ملاذ – لا وطن، ومثل هذا الملاذ لا يقوم به سوى نظام ديموقراطي برلماني جوهره الحرية، وعلته الاستقلال.

ماذا بقي من كل ذلك؟ هناك من ينعى النظام من دون الصاق ورقة النعي على الجدران. يبدأ الإلغاء من رأس الجمهورية بجعل الرئاسة فرضاً لا خياراً. وبجعل الانتخاب استفتاء، وليس نتاج حوار وطني حول المعاني والرموز الجمهورية. تساءل المسيح إن كان السبت قد خُلق من اجل اليهودي، أم أن اليهودي من اجل السبت.

لا ميشال شيحا هنا، ولا دستوره، ولا البلد الذي رسمه في أرقى الافتتاحيات، لغة وصياغة وفكراً ومشاعر. تعرض النظام للهدم منذ قيامه، إما على ايدي الاقطاع السافر والفظ، وإما على ايدي افظاظ الهدم بلا بناء. لكن البرلمان ظل الرابط والملتقى والضمانة الدستورية وسط كل الانهيارات. وظل منبر الحوار والتفاهم وتجاوزالانقطاعات والقطوعات، يبحر به ربان أرفع بكثير من صغارات السياسة.

لماذا تسخيف البرلمان اليوم، ومن أجل من؟ لماذا أكثر الدعوات خطورة تتم خارجه؟ مرة الفيديرالية (بين مَن ومَن؟) ومرة الانتخاب المباشر. ومرة قانون الطائفة. ومرةالمقاطعة. و36 مرة مهزلة وهرطقة وعرض حال. لماذا كل هذه الشنشطة للبلد والناس والدولة وأعلى رموز الجمهورية؟

“النظام اللبناني” كان دعوة إلى الاحتضان. وكان قائماً على التهذيب الخلقي وجماليات المخاطبة والسلوك. وقد كتبه ميشال شيحا باسلوب يليق بأرقى الأمم وأجمل الأحلام، وليس برقعة صغيرة سوف تشلع وتنسى تحت النفايات، استيراداً أو تصديراً، نووية أو عضوية. لا قيامة لبلد سقط فيه قانون العيب والحياء.