في انتظار عودة رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري إلى بيروت ـ عندما يعود ـ لن يكون سهلاً الانتقال بالأزمة الناشبة منذ 4 تشرين الثاني من مشكلة لبنانية ـ سعودية إلى أخرى لبنانية ـ لبنانية. كلتاهما متواصلتا الفصول
أياً يكن مسار الجهود المتلاحقة، المحلية والدولية، ثمة عطبٌ رئيسي وكبير قد وقع يتعذّر تجاهله، مقدار تعذّر توقّع معالجته بسهولة. شرخ عميق مع السعودية لن ينتهي بمغادرة الرئيس سعد الحريري الرياض إلى باريس ومنها إلى بيروت. وآخر عميق أيضاً بين رئيسي الجمهورية والحكومة، وقد قارب كل منهما المشكلة على نحو مناقض للآخر، لم تألفه علاقتهما في الأشهر الـ11 المنصرمة في عمر الحكومة الحالية، سواء حيال الاستقالة أو الظروف المحيطة بالإقامة الغامضة للحريري في الرياض.
أكثر من أي وقت مضى، بدا الرئيسان كأنّ كلاً منهما في كوكب بعيد من الآخر. امتعاض الرئيس ميشال عون من المملكة قابله الحريري بتدليعها، وإصرار رئيس الجمهورية على احتجاز رئيس الحكومة قابله الأخير بأنه في بيته وفي البلد الذي يحمل جنسيته. الواضح من تناقض ردّي فعلهما أنهما لن يشتركا بعد اليوم في النظرة الواحدة إلى دور السعودية في لبنان، ما دامت أثبتت أن في وسعها التلاعب بالاستقرار السياسي وفرض إسقاط الحكومة.
ليست المرة الأولى يستقيل رئيس للحكومة لسبب ناجم عن أزمة ذات بعد غير لبناني، مرتبطة بنزاعات عربية ــ عربية أو عربية ــ إقليمية.
بين سابقتي 1956 و1969 و4 تشرين الثاني تشابه المضمون واختلف الشكل
يمكن على الأقل إيراد سابقتين متشابهتين في المضمون ومتعارضتين في الشكل، تعودان إلى سنين طويلة: الأولى حينما استقال رئيس الحكومة عبد الله اليافي عام 1956 ومعه وزير الدولة الرئيس صائب سلام، احتجاجاً على عدم اقتداء لبنان بمصر وسوريا وقطع علاقاته الديبلوماسية مع فرنسا وبريطانيا لتورطهما مع إسرائيل في العدوان الثلاثي، والثانية عندما استقال رئيس الحكومة رشيد كرامي عام 1969 احتجاجاً على الصدامات العسكرية مع المقاومة الفلسطينية في الجنوب تضامناً مع سوريا ومصر اللتين انتقدتا السلطة اللبنانية والجيش اللبناني. كلا رئيسي الحكومة تضامنا مع وجهة نظر عربية تنافرت مع السياسة الخارجية للبنان، إذ اعتبرت أنها تناقضها، وكان في وسع مصر وسوريا، أو إحداهما، حينذاك هزّ الاستقرار السياسي في لبنان إلى درجة تقويض حكومته. وقتذاك أرجأ اليافي تقديم استقالته إلى ما بعد انعقاد القمة العربية في بيروت ثم رفعها إلى الرئيس كميل شمعون. أما كرامي فاستقال في مجلس النواب وفي الغداة سلّم كتاب الاستقالة إلى الرئيس شارل حلو.
لم يكن اليافي وكرامي أكثر تعلقاً بالرئيس جمال عبد الناصر مما هو عليه الآن آخر خلفائهم ــ للمفارقة ــ مع السعودية، ولا كانوا أكثر تعلقاً من الرئيس رفيق الحريري بالذات بالمملكة وسوريا في عقد التسعينيات. قد يكون من الضروري التذكير هنا بأن قرار استقالة حكومة الحريري الأب عام 1995، تحضيراً لتمديد ولاية رئيس الجمهورية الياس هراوي في تشرين الأول من ذلك العام، اتخذ في دمشق، لكنه نفّذ في بيروت، في قصر بعبدا. على أن أياً من اليافي وكرامي لم يخرج عن الأصول الدستورية والأعراف والقواعد المتبعة لمغادرة الحكم، والتسبّب بأزمة حكم احتجاجاً على تصرّف لم يشأ أي منهما الموافقة عليه، أقدم عليه رئيس الجمهورية كشمعون بالتمسك بدوام العلاقات الديبلوماسية مع باريس ولندن، أو غطاه حلو بإطلاق يد الجيش ضد المقاومة الفلسطينية. تجاوز شمعون الأزمة الدستورية بحكومة أخرى خلفتها ترأسها الرئيس سامي الصلح، واستوعب حلو تداعيات فراغ طال سبعة أشهر أخرى كي يعود صديقه وحليفه كرامي إلى السرايا.
مع أن قراءة مغازي استقالتي 1956 و1969 مختلفة عما حدث في 4 تشرين الثاني، إلا أن مغازي خلفتها بدورها استقالة الحريري بإعلانه إياها من الرياض وإحجامه ــ في معرض تأكيد جديتها ــ عن إرسالها إلى رئيس الجمهورية كي يقبلها أو يرفضها. لم يُدلِ بها من السفارة اللبنانية في الرياض ــ وهي أرض لبنانية ذات سيادة ــ ولا أودعها إياها كي ترسلها في حقيبتها الديبلوماسية. لم يخطر له أن يكرّر ما سبق أن فعله مرة في 20 كانون الأول 2009. يومذاك زار السفارة اللبنانية في دمشق، في أول زيارة له للرئيس السوري بشار الأسد ومصالحته، وقال إنّ وجوده في السفارة يكرّس العلاقات الديبلوماسية اللبنانية ـ السورية الناشئة حديثاً بين البلدين. شأن ما أراد في ذلك اليوم مخاطبة دمشق من مقر سفارة لبنان، كان من المتاح له مخاطبة الرئيس اللبناني من مقر سفارة بلاده:
1 ــ منذ لحظة الإعلان عنها لم يشأ رئيس الجمهورية مناقشة الاستقالة قبولاً أو رفضاً، بل انتقل للفور إلى ملابسات صدورها من بلد آخر. ما خلا ذلك الاعتبار هي دستورية نافذة، وإن أُخذ عليها خلوها من اللياقة الواجبة في التقدّم بها، وخصوصاً مخاطبة رئيس الجمهورية والتوجه إليه حصراً، المرجع الدستوري الذي وقّع مرسومي التكليف والتأليف.
2 ــ مقدار ما يمكن القول إن الاستقالة قانونية، هي أيضاً غير شرعية بسبب الإعلان عنها من مكان لا سيادة للدولة اللبنانية عليه كي يُعتد بها، فلا تبدو مفروضة أو قسرية. بذلك سجّل عون سابقة هي الأولى في تاريخ تعاطي رؤساء الجمهورية مع استقالات رؤساء الحكومات، لا تلبث أن تمسي قاعدة ليس لأي رئيس للجمهورية في المستقبل تجاهلها أو اهمالها. وقد لا يُعثر بعد الحريري على رئيس للحكومة يفعل ما فعل. الأصل في هذه السابقة أن الاستقالة تستمد دستوريتها وشرعيتها من مبدأ سيادة قرار اتخاذها.
3 ــ لا جدال في ان حط الحريري في بيروت سيقوده حتماً إلى الخروج من اللغط الغامض الذي أحاط بإقامته في الرياض، وربما الكشف عن أسراره. عليه أن يجيب عندئذ هل يريد الاستقالة أم العودة عنها أم الخروج من الحكم في الوقت الحاضر؟
4 ــ قد تكون الإيجابية الرئيسية التي ترتبت عن استقالة رئيس الحكومة ــ وإن بالطريقة غير المسبوقة التي اختارها أو أُرغِم عليها ــ أن ردود الفعل الدولية على الإقامة الملتبسة للحريري في الرياض وانقطاع التواصل التام معه حتى موعد مقابلته التلفزيونية الأحد الفائت، ومن ثم الأيام التالية في ظل الانقطاع نفسه، كشف وجود مظلة أمان دولية فوق لبنان تحمي استقراره السياسي مقدار استقراره الأمني، لم تستثنِ أي من الدول الكبرى نفسها منه.