بانعقاد الجلسة اليوم، وانتخاب الرئيس وأدائه يمين القسم وتلاوته خطابه، تطوى صفحة سنتين ونصف من الشغور، وأربع وأربعين جلسة من تفشيل النصاب، ويباشر السعي للعودة بالبلد الى حد أدنى من التغطية الدستورية للحياة السياسية.
كل شيء سيحدث اليوم سيقاس بمثقال دقيق، أو هكذا يفترض. الرقم له دلالته، وكل كلمة وكل عبارة، وكذلك كل نسمة في الشارع، وكل شعار.
منذ عامين ونصف العام وما هو معطّل في البلد ليست الرئاسة وحدها، بحكم الفراغ، وانما منطق الفصل بين السلطات، من أساسه. وأهمية سدَ الفراغ تكمن هنا بالتحديد: ليس فقط في انتخاب رئيس، وانما في استعادة منطق الفصل بين السلطات.
فبعد انتخاب الرئيس يعود التشريع صفة تعرّف سلطة المجلس النيابي بها، وتعود طاولة الحوار الى القصر الجمهوري، لترتبط بالهالة التحكيمية، بل هالة الوصل بين المختلف، لرئيس الدولة.
ويكون التحدّي بالتوازي تسهيل التداول على السلطة الاجرائية، وعدم الانتقال من حكومة بلا رئيس الى رئاسة بلا حكومة، علماً انّ التغطية التي يلقاها خيار وضع حد للشغور داخلياً وخارجياً يوجد كذلك الأمر مساحة للتشكيل الحكومي في مدّة معقولة من الوقت.
شبكة الأمان الرئيسية التي لها ان تنسج بدءا من اليوم هي شبكة المصالح والطاقات والقوى التي يهمّها اعادة تحريك عجلة الاقتصاد في البلد، والخروج من الكساد والركود الملازمين للتخلع المؤسساتي بشكل عام، والشغور الرئاسي بشكل خاص. بالتوازي، لا مناص من الاعتراف بأن الحدث اليوم يتفاعل معه اللبنانيون بمشاعر وحسابات مختلفة حسب طوائفهم كما وفق اصطفافاتهم السياسية، والتقدم خطوات اضافية في اثر انتخاب الرئيس يكون بالاقرار بهذا الواقع.
يتمتع المرشّح الوحيد اليوم العماد ميشال عون، في مقابل الورقة البيضاء، بثقل شعبي واسع ومزمن في الاجتماع المسيحي، انما ينتخب في بلد يقوم نسقه الدستوري منذ تسعين عاماً على النظام البرلماني، وليس على النظام الرئاسي، ولا على انتخاب رأس الدولة بالاقتراع العام. تأمن هذا الانتخاب لعون في نهاية الأمر بالمصالحة بين شعبيته مسيحياً وبين الترتيبات السياسية المألوفة في تركيبة تعتمد النظام البرلماني من جهة، وتقسم فيها السياسة بحسب الطوائف من جهة ثانية. نقلع بشكل جيد مع بداية هذا العهد بمقدار ما يتم ادراك جانبي هذه المعادلة: شعبيته المسيحية ما كان بالمقدور المكابرة عليها رئاسياً، على الدوام، وخاصة بعد «أزمة المشروع الاستقلالي الاسلامي – المسيحي» في هذا البلد، لكن شعبيته في طائفته ليست «املاء»، ولا يجب ان تكون كذلك شعبية اي زعيم في طائفته بالنسبة الى حظوظه في تولي مناصب مفتاحية في الدولة. انما ما حصل هو التمكن، في لحظة سياسية بعينها، من ملاقاة هذه الشعبية مع ترتيبات سياسية مؤشرها الأساسي العودة الى النظام الدستوري، بمعناه الأول، الفصل بين السلطات وتداولها.
من هنا، بدءا من اليوم، يحتاج البلد، وفي موازاة نهاية الشغور، الى اعادة التركيز على اهمية الفصل بين السلطات، المتاحة من ناحية بانتخاب رئيس، ومن ناحية ثانية بعودة الصفة التشريعية لمجلس النواب، والمستكملة في اسرع وقت، بقيام طاقم السلطة التنفيذية. ليس سهلا تحقيق الفصل بين السلطات في ظل التركيبة السياسية الحالية، وفي ظل انعدام التوازن بين القوى، بمعيار التعبئة والسلاح، لكن التشديد، الآن تحديداً، على معيار الفصل بين السلطات، أكثر من راهني.
فكل الكلام الذي سمعناه في الاسبوعين الماضيين من لدن مروحة واسعة من القيادات والقوى، حول الدستور والميثاق واتفاق الطائف، جميل وضروري، انما كل هذا محكه الآن اعادة الاعتبار لمنطق الفصل بين السلطات. الرئيس القوي هو الرئيس الذي يتمتع بقوة خلاقة للاسهام بتحريك الامور باتجاه هذا المنطق.
فهذا الفصل بين السلطات هو الضحية الاولى للشغور ومنطق تطيير الجلسات وتعطيل المجلس الدستوري ومنطق رئيس بلا حكومة او حكومة بلا رئيس، ومنطق التمديد الذاتي للمجلس لنفسه، وقبل كل شيء لحال التغلب الامني التي يزاولها «حزب الله» في البلد، التي تجعله سلطة فوق السلطات الدستورية الثلاث، ومعطّلة أو «ممتصة» لهذه السلطات.
الشعبية التي يتمتع بها عون في الشارع المسيحي، القدرة التي برهن عليها الرئيس سعد الحريري على المبادرة بجرأة وصولاً حتى تحقيق الهدف المرحلي الذي توخاه، الدور المهم الذي لعبه الدكتور سمير جعجع في معركة الرئاسة، إيثار رئيس «اللقاء الديموقراطي» وليد جنبلاط الانضمام الى مروحة القوى المسهلة انتخاب عون، مأسسة النائب سليمان فرنجية لمعارضته هذا الانتخاب من خلال خيار الورقة البيضاء، كلها عناصر يمكن تسخيرها بشكل ايجابي نحو استعادة منطق الفصل بين السلطات، كي يكون الانتقال من إنهاء فراغ في الرئاسة، الى تشكيل حكومة، الى انتخابات نيابية جديدة. يبقى مع ذلك التحدي الابرز والاصعب: كيفية اعادة تشكيل معالم الفصل بين السلطات في بلد يطرح فيه مرجع «سياسي – سلاحيّ»، زعيم «حزب الله» بأنه سلطة حل وعقد ما فوق دستورية. مع هذا شيء واضح وبسيط: كلما استكمل عقد مؤسسات الدولة، وحوصر الشغور والتعطيل والفراغ، كلما تقدمنا خطوة باتجاه حلّ هذه المشكلة العويصة التي لن تحل في يوم أو في سنة.