بعد سلسلة من الورش السابقة التي امتدت على مدى أكثر من عقد، منذ حرب عام 2006، بحث خلالها جيش العدو عن “وصفة سحرية” لتحقيق الانتصار على حزب الله في لبنان. وبعد الخطط المتواصلة التي طوَّر فيها قدراته العسكرية ومفاهيمه العملانية، يعود هذا الجيش في ظل قيادته الجديدة إلى بحث “كيفية الانتصار في الحرب القادمة بصورة واضحة وغير قابلة للتأويل». أتى ذلك التزاماً بالتعليمات التي وجهها رئيس الاركان افيف كوخافي لقيادة الجيش لمحاولة “حل اللغز»، عبر البحث عن وصفة للانتصار، على أن تستمر الورشة الى شهر تموز المقبل، كما اشارت الى ذلك صحيفة «اسرائيل اليوم».
يكشف الاعلان عن ورشة البحث عن وصفة للنصر، عن أكثر من حقيقة تتصل بمعادلات الردع المتبادل، التي تشهد ديناميات متسارعة بفعل الورش والورش المضادة التي يقوم بها أطراف الصراع. ومع أن جيش العدو يعلن عن مثل هذه الورش، لجهة كونه جيشاً نظامياً وتابعاً لكيان دولتي، ويتمتع بتفوق عسكري وتكنولوجي، كمي ونوعي، إلا أن ورش المقاومة التي لا تعلن عنها، لكونها مقاومة تعتمد السرية وعلى المفاجآت، تظهر نتائجها من خلال ردود فعل العدو، ومن خلال نتائج هذه المعادلات التي تجلت مفاعيلها في أكثر من محطة مفصلية.
يدفع الاعلان عن ورشة قيادة جيش العدو الجديدة إلى التساؤل عن مصير مفاعيل ونتائج الورش السابقة، وتبجّحات قادته التي ملأت وسائل الاعلام. والحقيقة أن العدو بلغ مستويات من التطور التكنولوجي والعسكري لم يشهدها طوال تاريخه. لكن ما يفسر هذا التجديد الدائم، بحيث يبدو العدو كما لو أنه يبدأ من جديد، هو حضور التطور الذي يشهده حزب الله في لبنان وفصائل المقاومة في قطاع غزة، لدى المستويين السياسي والعسكري في تل ابيب. والترجمة العملية لذلك، أن تطور القدرات والمفاهيم العملانية لحزب الله تحديداً، أدى الى تقزيم مفاعيل الورش والتطور الذي نجح جيش العدو في إنجازه. لذلك مع كل محطة، كانت قيادة العدو تكتشف أن النسخة الجديدة للجيش قد تكون ملائمة لمواجهة بمواصفات محدَّدة لحزب الله بنسخته السابقة. لكنها لم تعد ملائمة للتطورات التي نجح حزب الله في إدخالها واكتسابها في مجالات القدرة والمفاهيم العملانية كافة، ولا مع المستجدات التي نتجت عن فشل رهانات وخيارات استراتيجية في الساحة السورية.
أشرك جيش العدو كل الضباط من رتبة عقيد وما فوق في البحث عن «الوصفة»
على هذه الخلفية، “أعلن كوخافي عن إقامة الورشة قبل دخوله مكتبه، ولأجلها أُقيمت طواقم في الجيش الإسرائيلي… (لبحث) الفجوات التي ينبغي معالجتها من أجل الوصول إلى انتصار». لكن المشكلة الكبيرة التي يواجهها العدو هي أنه لا توجد «وصفة سحرية»، بل إن عليه التعامل مع وقائع يقرّ بها كبار القادة في تل أبيب، وهو ما دفع «أعضاء هيئة الأركان وضباط برتبة عميد، للبحث معاً في مسألة السعي إلى انتصار في ظل تغيّر العدو والتطورات التكنولوجية».
في ما يتعلق بتغير العدو، لفتت صحيفة «إسرائيل اليوم» إلى أن الجيش الاسرائيلي تم بناؤه «في الأصل لمواجهة دول. لكن بخلاف الماضي، العدو الذي على الجيش الإسرائيلي مواجهته اليوم لا يتموضع لمواجهة جبهوية مع الجيش، وعموماً هو مختفٍ، يعمل ببصمة خفيفة، من مناطق معقّدة… ومن تحت الأرض». وبشأن ذلك، سبق أن أعلن ايضا رئيس أركان الجيش السابق غادي ايزنكوت أمام مؤتمر هرتسيلياه في العام 2016 بأن حزب الله هو الذي أوجد وطوَّر القتال اللاتماثلي في مواجهة اسرائيل.
النتيجة العملية لهذا التطور، أن المقاومة في لبنان وفلسطين سلبت جيش العدو القدرة على تحقيق الحسم العسكري حتى في المواجهة الجبهوية، وهو ما أوضحت مفرداته الصحيفة الاسرائيلية بالقول: “بصورة مبسّطة، إذا كان في الماضي يجب مهاجمة مركز ثقل الفرقة في الجهة المضادة من أجل الانتصار وهزيمتها، فاليوم، مراكز ثقل العدو صغيرة جداً ومخفية، وكذلك السبيل لهزيمته مختلفة».
في السياق نفسه، أدى ذلك أيضاً ــ الى جانب مجموعة عوامل أساسية أخرى ــ الى أن يصبح تحقيق النصر (بالنسبة إلى جيش العدو) بعيد المنال. وهو ما أقرت به “إسرائيل اليوم” ضمناً: «عدا عن المشكلة المفاهيمية، ورغم تحديث الخطط العملياتية للجيش الإسرائيلي، والتحسّن في المخازن وقطع الغيار في السنوات الأخيرة، في مطلع سنة 2019 أيضاً، توجد في قيادة الجيش علامات استفهام كبيرة عما إذا كان الجيش الإسرائيلي سيستطيع في ساعة الامتحان هزيمة المنظمات “الإرهابية” بصورة غير قابلة للتأويل». بل إن المستجد الأكثر نوعية وحضوراً أيضا، أن «رؤية حزب الله مرت مؤخراً بتغييرٍ معين، والمنظمة انتقلت إلى رؤية انتصار من خلال جباية ثمنٍ باهظ. يمكن استخلاص هذا، من بين جملة أمور، من الخطط الهجومية لحزب الله التي من بين ما تشمل الدخول إلى أرض إسرائيل، من فوق ومن تحت الأرض، ومحاولة “احتلال «الجليل…».
الى ذلك، تابعت الصحيفة مناقشة مسألة الانتصار التي رأت أنها “في العصر الحديث، مسألة معقّدة، يتخبّط فيها مسؤولو الجيش كثيراً. إذا سألنا المواطن العادي، من الممكن أن يقول إن آخر مرة انتصر فيها الجيش الإسرائيلي بصورة جلية كانت في حرب الأيام الستة (1967) قبل أكثر من 50 سنة».
الجديد النوعي الاضافي الذي بات أكثر حضوراً لدى قيادة العدو، ايضاً، هو دخول التكنولوجيا المتطورة على قدرات حزب الله، والقوى الاقليمية المعادية لاسرائيل، وهو ما أدى الى تطورٍ مفاهيميّ يتصل بخيارات المواجهة، والقدرة على تحقيق انتصارات أبعد مدى من الصمود والقدرة على مواصلة الحاق الأذى بالعدو. وبشأن ذلك، لفتت الصحيفة الاسرائيلية إلى أن «المسألة تتعلق بورشة مفاهيمية، يقوم في ظلها ضباط الجيش، وفق طواقم فكرية، بمناقشة التغيرات التي طرأت على الجيش وعلى العدو، وكيفية الانتصار في حروب في ضوء هذه التغيرات ودخول التكنولوجية الحديثة».
ولأن المهمة أكبر من أن يتحملها طاقم قيادي، ومصيرية باإلى نسبة لمستقبل كيان العدو، وحاسمة في بلورة المعادلات الاقليمية، حرص كوخافي على اشراك كل الضباط برتبة عقيد وعميد ايضا في هذا البحث، وطلب من كل منهم أن يكتب له في صفحة أين يشخّص قوة الجيش الإسرائيلي وأين الفجوات القائمة وما هي اتجاهات الرد على هذه الفجوات. وطُلب منهم تقديم الردود خلال خمسة أيام، عمل بعد ان كتب لهم في البريد الأساسي: «رأيكم يهمّني». لكن مشكلة العدو أن مواقف المقاومة وخياراتها في لبنان وفلسطين باتت أكثر حضوراً من رأي ضباط جيشه، وتؤثر على خياراته وقراراته أكثر من توصياتهم.