Site icon IMLebanon

عهد التغيير لا الإصلاح: ولّى زمن التبرير

المحتفلون بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً لا يريدون شيئاً الآن غير الاحتفال. ولا شك في أن التفكير في ما كانت ستكون عليه الأوضاع مع أي رئيس آخر وما ينتظر أن تكون عليه مع عون، أمر يدعو إلى الاحتفال. ففي هذا البلد بات دارجاً أن يقارن السياسي نفسه بالآخرين ليطمئن بأنه أفضل من غيره، وأن يقارن بعض النواب والوزراء ــــ ممن لا يقومون بأي شيء ــــ أنفسهم بغيرهم الذين لم يتركوا موبقة إلا ارتكبوها.

والأكيد أن الاحتفالية الشعبية الكبيرة تؤمن أن في وسع الرئيس عون القيام بما لا يمكن أحداً القيام به، وأنه سيحاول، أقله، الوقوف في وجه ما يستسلم الآخرون له، وأنه لن يبيع ويشتري. إلا أن موجة التفاؤل لا تصل إلى القول إن الاعتقاد بأن البلد مقبل على عهد إصلاحي وتغييري. فالشراكة مع سعد الحريري ونبيه بري ووليد جنبلاط من جهة، وإعلاء التيار الوطني الحر «المصلحة المسيحية» فوق أي اعتبار، وغيرها من ضوابط العهد، كلها تمنع المواطنين من الحلم بإنجازات نوعية كبيرة. لذلك يردّد الجميع، حين يُسألون عمّا ينتظرونه من العهد الجديد، أموراً ثانوية، مثل تأمين المياه والكهرباء والإنترنت السريع وحل أزمة زحمة السير… وهذا في حدّ ذاته محبط. فمن الطبيعي أن تنتظر حلاً لمعضلات الكهرباء والمياه والإنترنت من وزراء نشيطين. أما أن يرتبط العهد الرئاسي المنتظر منذ أكثر من ربع قرن بهذه العناوين، فهو أمر في غير محله. ومن المُحبِط أيضاً أن يقول النواب العونيون في مقابلاتهم التلفزيونية إن هذا العهد سيؤمن ضمان الشيخوخة، وكأنهم فازوا بوزارة الشؤون الاجتماعية لا رئاسة الجمهورية.

المحتفلون بانتخاب العماد عون رئيساً يجدون فيه أملاً كبيراً لمستقبل آخر. والمستقبل الآخر لا يؤمنه دركي ينظم السير عند أوتوستراد جونية، أو رئيس حكومة يتكرّم علينا أخيراً بتمرير خطتي الماء والكهرباء الباسيليتين. الذين يحتفلون بعون رئيساً يريدون اقتصاداً آخر يبدأ بإعادة هيكلة القطاعات الانتاجية وتوزيع أرقام الموازنات لمصلحة الزراعة والصناعة أولاً، والتنسيق مع الدولة السورية وحزب الله لتأمين ممرات آمنة للشاحنات إلى الأردن ومنها إلى الدول العربية الأخرى. المحتفلون ما عادوا يعلمون متى تنقطع الكهرباء ومتى تشتغل المولدات الخاصة، لكنهم يرون تفاحهم ومختلف المواسم الزراعية تيبس أمامهم، ويعانون من أقساط المدارس الخاصة وتخلف المدرسة والجامعة الرسميتين، ويعنيهم في هذه اللحظة بالذات كيف يشترون شقة لأبنائهم حتى يفكر الأبناء في زيارة أهلهم بين صيف وآخر أكثر من أي شيء آخر. ولعل النواب المملّين يتوقفون في هذا السياق عن قراءة مقتطفات من برامج رئاسية عفى عليها الدهر، فيفكرون في أشياء جديدة يقنعون سيد القصر بها، مثل استحداث مركز رعاية طبية أولية (مستوصف مجهز بمختبرات وأجهزة تصوير وعيادتا أسنان وطب عام) في كل بضع بلدات، أو ناد رياضي كامل التجهيزات في كل بلدة بدل المدينة الرياضية الإضافية التي لا تفيد أحداً، أو استراتيجية تربوية وطنية جديدة، أو إعادة نظر في الصلاحيات المطلقة المعطاة للمصارف.

والأهم من هذا كله هو سوق كل المقاولين والمتعهدين والمكاتب الاستشارية المتعاونة مع صناديق الهدر إلى محكمة علنية تدقق في ما صرف خلال ربع قرن على البنية التحتية المهترئة التي يعلق اللبنانيون في حفرها بعدما اغتنى على ظهورهم بضعة تجار في كل طائفة، علماً بأن العونيين لا يمتلكون الرئاسة فقط هذه المرة، بل الرئاسة والوزارات الأساسية والمقاعد النيابية واتحادات البلديات والبلديات. وربط كل هذه بعضها ببعض من جهة، وبالمانحين الدوليين ورجال الأعمال المكدسين على طريق بعبدا، يكفي لتحقيق الكثير. سلسلة الرتب والرواتب بند أساسي يفترض بالعونيين أن يدرجوه على جدول أعمالهم. التطهير الإداري بند ضروري، لا الإصلاح ولا التغيير، لأن الذين يغيّرون الصورة خلفهم لا يتغيّرون. ولا شك في أن الاهتمام بالاغتراب مهم، إلا أن الوزير جبران باسيل «كفّى ووفّى»، ولعل الرئيس الجديد يركز على تحسين حياة المقيمين قبل إقناع المغتربين بالعودة. المواطنون يفهمون ويتفهمون ضرورات الشراكة الوطنية والحساسيات السياسية، لكنهم حين يحتفلون بكل هذه الحماسة من قلبهم بوصول الجنرال، فإنهم لا يفعلون ذلك احتفالاً بإمكانية توزير سليم جريصاتي أو شامل موزايا، بل بقدرة هذا الرجل على الانتقام لهم ممن سلبوهم لقمة العيش وحوّلوهم أجراء بؤساء عند بضع مدارس ومستشفيات ومصارف ووكلاء دواء ومواد غذائية.

الأمر مستحيل ربما. إلا أن عون، بالنسبة إلى مريديه، هو حامل تلك العصا التي تهزّ ستاتيكو السلطة القائمة منذ الاستقلال. ولعل فترة السماح ستكون طويلة، وسيذهب الناخبون ليعطوا العهد زخماً كبيراً في صناديق الاقتراع. إلا أنهم سيسألون بعد عام أو عامين عمّا تحقق. ولا أحد يعلم أكثر من العماد عون نفسه كيف تراكم التململ من تقصير غالبية نوابه شهراً تلو الآخر، ولم تعد تنفع التبريرات وتحميل الخصوم مسؤولية التقصير؛ فالمواطن يغض الطرف، ويكتفي بداية بأن يكون فلان أنظف من سلفه، لكنه لن يفوّض أمره أكثر من مرة إلى من يقول له «ما طالع بإيدي شي». والأكيد هنا أن الجمهور لم يكن يوماً متسامحاً بقدر تسامحه مع العونيين. فهو غضّ النظر عن تنقلهم بين 13 وزارة خلال سبع سنوات من دون تحقيق المرتجى، وتقبّل كل أعذارهم. لكن هؤلاء أنفسهم لن يكونوا قادرين على تقديم أي عذر بعد وصول عون إلى بعبدا بأكبر كتلة نيابية في تاريخ رؤساء الجمهورية.

العماد عون رئيساً فرصة لا تتكرر. ليس لأنه جنرال متقاعد يثير في النفوس نوستالجيا جميلة، ولا لأنه يعزز نفوذ الوزير باسيل أو لأنه يعيد سعد الحريري إلى السلطة؛ الفرصة التي يتحدث عنها الناس لا تتعلق بهذا كله. الأمر يتعلق بعبارات صغيرة يدغدغ بها الجنرال حلم الرأي العام بأن يكون هذا البلد وطناً لا مزرعة أو مجموعة إمارات عدّدها أخيراً. الأمر يتعلق بتكسير «أكبر رأس» يحاول تجاوز القوانين. وهذا الجنرال لا يحتاج إلى من يقول له ماذا يفعل، يكفي أن يقول «دقت ساعة العمل». عين المحتفلين اليوم تتركز على هذه الساعة، والخيبة ستكون أضعاف الأمل الحالي إذا قيل لهم بعد عام أو عامين إن صلاحية البطاريات منتهية أو العقارب معطلة والساعة لن تدق. وأياً كانت الحسابات السياسية، لو كانت إعادة إعمار البلد ممكنة مع الطقم الحريري والرؤية الاقتصادية الحريرية، لكان الرئيس الراحل الياس الهراوي بطلاً قومياً اليوم. أساس النجاح والحفاظ على ثقة الرأي العام ومعنوياته يبدآن بطيّ صفحة الحريرية السياسية بما تتضمنه من تحالف دائم بين الحريري وبري وجنبلاط، وهو تحالف محميّ من الهيئات الاقتصادية والمصارف ووسائل الإعلام والمؤسسات الدينية.