إعلان إستراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب ورد الفعل الروسي عليها والأحداث التي انطلقت في إيران، ثلاثة مؤشرات أقفل عليها عام 2017 وتشي بتحول جوهري في التوازن الإقليمي والدولي وتفتح على تصعيد داخلي في ساحات الشرق الأوسط.
وعلى رغم أن الانطباع الأول لقراءة إستراتيجية الأمن القومي يوحي بأنها ليست سوى تجميع لتغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلا أن واقع الأمر يدل على التوجه المصلحي والإمبريالي للإدارة الذي يربط بين التجارة والمصالح الحيوية الأخرى من دون أن تغفل العودة إلى قلب الصراع في أوروبا التي تصفها بـ «الحرة والقوية» حيث تملك روسيا «الرغبة في انتهاك سيادة دولها».
تظهير روسيا بهذا الموقف لم يمرّ من دون رد فعل، إذ لأول مرة منذ عقود يتحدث المسؤولون الروس عن العودة إلى أجواء الحرب الباردة وتزامن ذلك مع تسليح الولايات المتحدة لأوكرانيا بأسلحة نوعية بهدف التصدي للجماعات الموالية لموسكو شرق البلاد. الروس قبل ذلك كانوا ينكرون قيام أجواء شبيهه بالحرب الباردة وكانوا يعتمدون التغلغل الناعم في مناطق الفراغ الأميركي لإعادة تشكيل النفوذ والتوازن الدوليين على أساس أنهم قطب شريك في كثير من المجالات. وقد شكلت ولايتا الرئيس باراك أوباما مناسبة جيدة للروس لإعادة توسيع انتشارهم الإستراتيجي وبخاصة في الشرق الأوسط. أما الآن فيذهب بوتين إلى تطوير خيار الردع النووي خوفاً من العدوانية الأميركية التي وصفها بأنها «ليست مجرد أقوال وإنما مدعومة بأعمال ملموسة وتمويل»، وهذا ما دفع أيضاً الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف إلى تحذير الأميركيين بالقول «لا تكرروا أخطاءكم وتعيدوا خطر الحرب النووية».
أوروبا التي تقف في الوسط من ذلك تعي أنه بمقدار ما يضمر الحكم الجمهوري ونموذج ترامب في الولايات المتحدة عدوانية ملحوظة تجاه القضايا العالمية بمقدار ما ينتظره كثير من الخيبات في الداخل والخارج، لذلك يبرز التمسك بالوحدة الأوروبية وبمقولة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل «أورويا أولاً» باعتبارهما المدخل المنطقي لإلزام الولايات المتحدة الإبقاء على الشراكة الإستراتيجية على أساس القيم المتجانسة.
الصراع مع روسيا والقلق من ترامب لا يُغيّران في جوهر التحولات في القارة الأوروبية التي تتمّ تحت سقف استقرار النظام الإقليمي واستبعاد أي تحول دراماتيكي وذلك على عكس ما تكنه التحولات الجذرية الآخذة في التبلور في ساحات الشرق الأوسط.
ما يجري في إيران يدخل في سياق المسار الإلزامي للتحول من حقبة إلى أخرى، وهو تعبير عن التناقض الجوهري بين دواعي الثورة الدينية وأدواتها التشغيلية من جهة ومستلزمات الثورة المعرفية التي يشكل دحض النظام الأوتوقراطي أولى تجلياتها من جهة ثانية. تناقض جوهري تأخر الملالي في استشرافه والحؤول دون انعكاسه على الواقع المجتمعي في إيران. هنا يبرز السؤال عن التوازن الدولي القائم فيما إذا كان يبيح احتضان هذا المعطى وتطويره، بخاصة إذا ما ارتكز على قاعدة داخلية قوية تظهر متماسكة إلى حد بعيد هذه المرة.
فاستغلال الدين في تقوية السلطة والطغيان الفكري لا يكفلان توازناً مجتمعياً ملائماً في زمن التراكم المعرفي بخاصة في ما إذا أتيحت إمكانية للناس في المقارنة بأنظمة الحكم الأخرى. والشغف إلى إشباع هذا الجانب يتلاقى مع شغف مواز يتعلق بالحاجة المادية إلى مقومات العيش، وذلك في ظل انفصام مصلحي وطبقي يظهر جلياً في المجتمع الإيراني ويؤول إلى استقطاب حاد يمكن لحظه بسهولة. المنطقة كلها تعيش في مرحلة التعبير عن مأزق المشروع الطائفي الذي فشل في تأمين الاستقرار ولم يبقَ أمامه إلا العنف للحفاظ على وضعيته في ظل افتقاده الرؤية المستقبلية. وهذا إضافة إلى أن ما أصاب الأطراف في هذا المشروع بدأ يصيب المركز وهذا أيضاً واحد من علامات المراوحة في التخبط وتجاهل حتمية التحديث في ظل اجترار المسوغات ذاتها.
المناحي الداخلية في المقاربة الإيرانية تقوم أساساً على الدور المُناط بإيران لعبه في النظام الإقليمي. فالإنكفاء الروسي بعد 1990 فتح الباب أمام إيران للانتشار أفقياً في المنطقة وزاد على ذلك وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد الذي كان يمتلك حس التنبه من طموحات الإيرانيين على رغم تعاونه معهم، وأتاحت هذه الوفاة الباب أمام إيران للانتقال في العلاقة مع سورية من الجانب السياسي المصلحي الذي ميّز حقبة الوالد إلى الجانب التبشيري المذهبي الذي طغى أيام الابن.
إن هشاشة الداخل في إيران تطلق يد روسيا أكثر في تأكيد سيادتها على عناصر المحور الإيراني وتعيد لعب دور الوصاية عليه وحمايته في مجلس الأمن، ولن يكون موقفها حيال التحولات الداخلية فيها مغايراً لما اعتمدته في سورية. فإيران الثورة لن تسقط في ظل نظام دولي يخاف من شظايا انفراطها، لكن يبقى أن نموذجها الذي كان قابلاً للتصدير أصبح في خبر كان!