من الطبيعي ان يغضب اللبنانيون ويرفعوا الصوت احتجاجاً ضد التمديد للمجلس النيابي وان لا يتقبلوا هذا الخيار وما يُساق اليه من مبررات وضرورات تبيح المحظورات، خصوصاً وان انتخابات بلدية شاملة جرت قبل عام وكانت مثالية في ظروفها ومناخاتها وليس هناك ما يمنع ويحول دون تكرار هذه التجربة الناجحة.
اللبنانيون متعلقون بنظامهم الديموقراطي ومبدأ تداول السلطة ولم تعد تقنعهم نظرية الظروف الإستثنائية، والأوضاع الأمنية، ولا يفهمون كيف ولماذا فشلت كل محاولات الاتفاق على قانون جديد للانتخاب.
اذن من الطبيعي، ان يرفض المسيحيون التمديد ويعترضوا ويعبّروا عن موقفهم الرافض بكل الوسائل الديموقراطية المشروعة والمتاحة، فالمسيحيون ينتظرون بفارغ الصبر ومنذ سنوات إقرار قانون جديد للانتخابات يعيد اليهم حقهم السليب في ايصال نوابهم، ودورهم الفاعل في الحكم والدولة، ويحررهم من التبعية والاستزلام للقوى والقيادات الأخرى.
واذا كانت فرصة الوصول الى هذا القانون والحصول عليه لم تكن متوافرة من قبل فإنها تراءت لهم بشكل واضح وواثق في الأشهر الأخيرة وتحديداً بعد الاتفاق بين «القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر» الذي ادخل «المسيحيين» الى صلب المعادلة وحجز مقعداً لهم على طاولة القرار.
قانون الإنتخابات يمثل بالنسبة للمسيحيين مسالة تتعلّق بوجودهم السياسي ومستقبل دورهم الذي يحدده حجمهم وتأثيرهم في الحكم، وقانون الإنتخاب هو الممرّ الالزامي الى إعادة بناء ما خسروه على امتداد 25 سنة على صعيد الشراكة الفعلية في الحكم التي تتوقف الى حد بعيد على تحصيل المناصفة الفعلية في مجلس النواب.
لا اعتقد ان احداً من اللبنانيين مع مبدأ التمديد وضد مبدأ الإنتخاب وتداول السلطة. ولكن التمديد الحاصل لا يمكن النظر اليه ولا الحكم عليه الا من خلال الظروف التي احاطت به والأسباب التي ادّت اليه وجعلت من هذا الخيار السيء، الخيار الأقل سوءاً من بين كل الخيارات المطروحة والمعروضة.
الإنتخابات على اساس قانون الستين هو خيار سيئ ومرفوض، وبكل بساطة وصدق فإن إجراء انتخابات على اساس قانون الستين يعني حكماً اعادة انتاج الطبقة السياسية ذاتها مع تعديلات طفيفة في بعض الوجوه وليس في المضمون والتوجهات، وهذا يعني اننا سنكون امام تمديد من نوع آخر، تمديد مقنّع او «مموّه».
واذا كانت الانتخابات على اساس القانون النافذ حالياً مرفوضة فإن الوصول الى الفراغ مرفوض بشكل اقوى، ذلك ان الفراغ النيابي يتجاوز بدرجات في خطورته وعواقبه الفراغ الرئاسي لأن يصيب مصدر كل السلطات اي المجلس النيابي ويدخل البلد في ازمة دستورية وسياسية كبرى ستقود البلاد حتماً الى مؤتمر تأسيسي لإعادة بناء الدولة والنظام على انقاض اتفاق الطائف الذي كلّف حرباً ونزاعاً دموياً طويلاً في لبنان.
اتفقت كل القوى والقيادات على «دفن» قانون الستين وعلى منع الوصول الى الفراغ وعلى ان البديل هو في الإتفاق على قانون جديد للإنتخابات، ولكن كل المحاولات والإحتمالات التي بُذلت من اجل وضع هذا القانون باءت بالفشل وظهر حجم الإختلاف الحاصل والهوة الفاصلة بين مواقف ومصالح الأفرقاء فضاعت المشاريع بين (اكثري ومختلط ونسبي) ودارت المناقشات في حلقة مفرغة لتصل الى طريق مسدود والى مأزق عدم القدرة على انتاج قانون انتخابات او ربما عدم وجود ارادة سياسية في هذا الاتجاه.
بعد استنفاد الجهود السياسية والمهل الدستورية، لم يعد من خيار الا التمديد كأمر واقع و«كشر لا بدّ منه»… لأن البديل هو الذهاب الى «الفراغ القاتل»… وهذا التمديد رغم كل مساوئه وبشاعته يبدو الخيار الأنسب في هذه المرحلة ليس فقط لتفادي انتخابات مزورة لإرادة الشعب اذا جرت على اساس قانون الستين، وليس فقط لتفادي «فراغ قاتل» وانما ايضاً لعدم التسليم بقانون جديد سيئ وعدم الرضوخ لقانون لا يلبي التطلعات والحقوق والمصالح المسيحية، والذهاب في هذين «التسليم والرضوخ» فقط لتفادي التمديد والفراغ.
فلا يجب ان تكون الحلول والتسويات كل مرة على حساب المسيحيين وان يتحملوا تبعاتها وتكاليفها وانما من مصلحتهم انتظار الظروف والمعادلات التي تعطيهم ما يريدون وتحقق لهم الهدف الأبرز الذين ينشدون وهو قانون انتخابات جديد يصحح التمثيل والتوازن ويجعلهم شركاء حقيقيين مع اخوانهم في هذا الوطن.
ما يُؤخذ على القيادات المسيحية ويُسجّل عليها في معركة قانون الإنتخابات ان ادارتها السياسية للمعركة لم تكن جيدة وانما تخللتها ثغرات ونواقص، ولا مجال هنا للخوض في كل التفاصيل ولسنا في وارد تحديد المسؤوليات، وانما نكتفي بالقول ان «معركة القانون» لو خيضت بشكل افضل كانت ستصل الى نتائج افضل.
وعلى سبيل المثال لم يحدد المسيحيون منذ البداية ما هو القانون البديل لقانون «الستين» ولم يتفقوا على مشروع نهائي يفاوضون عليه. ولم يوسّع الثنائي المسيحي بيكار الإتفاق والتشاور ليشمل كل الأحزاب والقوى والمذاهب المسيحية من دون استثناء احد. ولعلّ ابلغ دليل ومؤشر الى ان المعركة السياسية طرأ عليها تحوير في مناخها وهدفها، انما وصلت الى حدّ تصوير مشكلة قانون الإنتخاب على انها مشكلة مسيحية وهم من حالوا دون الوصول الى قانون جديد.
اما في الواقع فإن الصراع في لبنان والذي هو جزء من الصراع الدائر في المنطقة هو صراع «سنّي- شيعي» وقانون الإنتخاب جزء من هذا الصراع لا بل في صلبه. وهناك تجاذب قوي وحاد بين «تيار المستقبل وحزب الله» حول قانون الإنتخاب ومستقبل السلطة والمعادلة في لبنان، واما المسيحيون فأنهم ليسوا طرفاً في هذا الصراع وانما يتلقون تبعاته وتصيبهم شظاياه.
وما يُؤخذ على «الفريق الشيعي والفريق السني» انهما لا يحسنان التعامل مع الواقع المسيحي ولا يظهران التفهّم لهواجسه ومطالبه المحقّة.
ولعلّ الإساءة تكمن في ان التمديد يُراد تمريره وفرضه رغماً عن المسيحيين بدل ان يكون بالتوافق والتفاهم معهم، وفي ان لا يُصار الى احترام وحدة المعايير والمبادئ، فكيف يكون التصويت على قانون الإنتخاب محرماً في مجلس الوزراء وكيف يكون التصويت على قانون التمديد مشرّعاً في مجلس النواب وكيف يكون التوافق مطلوباً في قانون الانتخاب ولا يكون مطلوباً في قانون التمديد؟ وكيف تكون الجلسة التشريعية غير ميثاقية اذا لم تحضرها «كتلة المستقبل» ولا تكون كذلك اذا قاطعتها كتلتا «التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية» وهما الكتلتان اللتان تمثلان شريحة مسيحية كبيرة؟
حسناً فعل الرئيس ميشال عون بمبادرته الى تأجيل الجلسة النيابية التي كانت مقررة لـ «التمديد» مستخدماً صلاحياته الدستورية ونازعاً فتيل الإنفجار في مرحلة دقيقة لا تحتمل تأزماً وتوتراً سياسياً وطائفياً… المشكلة جمدت وتأجلت الى حين ولكنها ما زالت تحت الرماد وما نأمله هو ان تتحقق معجزة قانون الانتخاب في خلال شهر… واذا لم يحصل ذلك يبقى التمديد شرّ لا بدّ منه.