هدّد الرئيس تمام سلام بتقديم استقالة الحكومة إذا لم تتمكن من حلّ أزمة النفايات. هذا ليس التهديد الأول، وهو على الأرجح لن يكون الأخير. سيكون على الرئيس سلام، إذا أراد أن يعطي لتهديداته مفعولاً عملياً، أن يختبر أشكالاً جديدة من الضغوط والإجراءات.
المشكلة أنه ليس في رصيده، حتى الآن، إلا فضيلة الصبر والانتظار والمداراة والمرونة. هذه أُمور إيجابية من حيث المبدأ، لكن لا يمكن أن تشكل وحدها عدة الشغل عندما يتطلب الأمر وضوحاً وحزماً وبلورة مواقف وتوجهات واتخاذ قرارات قابلة للاحترام والتطبيق. على الأرجح لن يؤخذ تهديده الجديد على محمل الجد ما دام، أيضاً، يتعامل مع منظومة سلطة وحكم، محصنة ضد الاكتراث للمصلحة العامة، وقادرة على الدفاع عن هذه المنظومة، ذات الطابع الفئوي التحاصصي، بكل الوسائل والأساليب الرسمية والشعبية، بما في ذلك القمع والبلطجة!
الأزمات اللبنانية لم تكن، وليست مقتصرة، الآن، على مسألة النفايات فحسب. إنها مزمنة ومتفاقمة في مجالات وحقول أهم وأخطر، رغم أن مشكلة النفايات قد تحولت، بفعل عدم المسؤولية وانعدام المحاسبة وتعاظم شهوة النهب والتحاصص والفساد، إلى مشكلة ذات طابع إقليمي ودولي! من هذه الأزمات، الحاضرة الآن والتي تتكرر باستمرار، أزمة شلل المؤسسات، أو تعطيلها، أو إحداث فراغ فيها على غرار ما هو حاصل، منذ حوالى سنتين، بالنسبة إلى الموقع الأول في السلطة، أي موقع رئاسة الجمهورية. يوم الأربعاء الماضي، شهدنا فصلاً جديداً من مسخرة الفراغ واستمراره وكيفية التعامل معه، من دون وجل أو خجل. يتقاذف الجميع المسؤولية، يتداولون التعطيل. الأسوأ أنهم يحاولون، في مجرى ذلك، تكريس تقاليد جديدة في مسار «المعجزة» اللبنانية التي فاضت «خيراتها» على المنطقة: طائفية وفئوية وانقسامات وتبعية وفساداً وزبالة… و«الحبل على الجرار»! والتقاليد المذكورة هي تلك التي يُراد لها أن تحكم كل الحياة السياسية اللبنانية: في معركة الرئاسة الحالية، بحيث تُسمي كل طائفة (أو مذهب) «رئيسها»، وتُسمّي، لاحقاً، عبر قانون الانتخاب العتيد (الأرثوذكسي: لاحظ التسمية!) نوابها أيضاً. لا يعبأ هؤلاء، بفجور ووقاحة، بأن الدستور اللبناني، الذي تمَّ تجاهل أو تعطيل بنوده الإصلاحية بسبب تواطؤ الجميع، ينظم آليات واضحة ليكون رئيس الجمهورية رئيساً «لكل السلطات» وليكون النائب ممثلاً «لكل الأمة». بذريعة «الرئيس القوي»، يجري تقزيم موقع الرئاسة الأولى إلى مستوى ما يمثله الانتخاب الفئوي عندما يصبح الرئيس، المسمى حصرياً من قبل فريقه الطائفي أو المذهبي، بحجم هذا الفريق فقط، وليس بحجم كل الوطن وكل المواطنين.
يحصل ذلك فيما لبنان مهدد، حالياً، بأعظم المخاطر، من دون أن يكلف مجلس وزرائه نفسه، بسبب استخفاف أو عجز، عناء الانعقاد للنظر في كيفية التعامل مع تلك المخاطر، وخصوصاً في جوانبها الأمنية والاجتماعية… لعله من محاسن الصدف أن الضغط، السعودي خصوصاً، الموجّه ضد لبنان الآن لتعديل سياساته بما لا طاقة له عليه، بسبب هشاشة وضعه ودقة توازناته، لم يجد تبنّياً وتشجيعاً على المستوى الدولي. الولايات المتحدة، من جهتها، لا تتفق مع الطرف السعودي على أولويات التعاطي مع الوضع في سوريا. ثم هي منخرطة الآن في محاولة قطف ثمار ذات طابع استراتيجي في ما يتعلق بإعادة النظر في خرائط بعض بلدان المنطقة، بما يجعل دولها دويلات متنازعة تحتكم جميعاً إلى السيد الأميركي في الدرجة الأولى (على غرار العراق مثلاً). الموقف الأميركي منسّق، إلى حدٍّ بعيد في كثير من الأمور والأولويات الراهنة، مع الموقف الروسي. ولذلك، فلن يكون بمستطاع قيادة المملكة أن تقرر بشأن الوضع اللبناني، أو أن يكون قرارها حاسماً من دون دعم أميركي على وجه الخصوص. ينبغي أن نذكر هنا بأن الضغط الممارس على لبنان الآن قد وقع على توازنات لا تشجع الأطراف اللبنانية الأساسية على استسهال الإقدام على التوتير الأمني. لكن، في مقابل عدم التشجيع الدولي وعدم الاستسهال الداخلي، فإن وضعنا، كما هو معروف، هش، وسريع العطب، وقابل للاشتعال إذا ما تمكن مستفيدون متآمرون أو مرتزقة من النجاح في تنفيذ بعض أشكال التخريب. ومن أخطر هؤلاء، كما هو معروف، العدو الإسرائيلي، الناشط في الساحة اللبنانية، والقادر على اختراقها في أكثر من منطقة وبأكثر من أسلوب.
السبب في أن وضعنا هش وقابل للاشتعال هو كثرة ما جرى ضخُّه وتغذيته من سموم طائفية ومذهبية، من قبل الجهات الحاكمة التي تتقاسم الثروة والنفوذ في البلاد. هذا الضخ مستمر، وهو الذي يحرص معظم شركاء السلطة على تغذيته بهدف استمرار صيغة الاستئثار والتقاسم، التي لن تستمر، أيضاً، من دون تبعية للخارج. تلك التبعية تؤدي، بدورها، إلى المحافظة على التوازنات أو إلى تعديلها، ولو تطلب ذلك التضحية باستقرار البلاد وبوحدتها الوطنية وبمصالحها وبسيادتها. لكن رغم هذا الخلل الذي يتشارك الجميع في الحرص على استمراره كناظم للحياة السياسية اللبنانية، لا بد من التنويه ببعض ما اتخذ من مواقف في الأيام القليلة الماضية، ما يستحق التشجيع أو، حتى، التقدير. من ذلك، الموقف الذي أعلنته قيادة حزب الله على لسان الأمين العام السيد حسن نصرالله بضرورة الحذر من الانجرار إلى الفتنة مهما كانت الأسباب المؤدية إليها. كذلك لا بد من التنويه بالمواقف التي اعتمدها الرئيس سعد الحريري لجهة استمرار الحوار الداخلي، ومع «حزب الله» خصوصاً، ثم لجهة التحفّظ على «الإجماع» العربي (في إجتماع وزراء الداخلية العرب، قبل أيام) بتصنيف حزب الله حزباً إرهابياً.
لا يجوز الاكتفاء بهذين الموقفين اللذين يشكلان، للأسف، استثناءً، لا قاعدةً تنظم العلاقات في ما بين اللبنانيين، وبينهم وبين الخارج. ثم إن هذين الموقفين، على أهميتهما، قد يصطدمان بعوائق داخلية وخارجية عديدة. لذلك يجب البحث عن آليات محلية جديدة وثابتة للتمكن من امتلاك حصانة داخلية تمنع تفجير لبنان بما قد يهدد، هذه المرة، وحدته ووجوده في آنٍ واحد، وأن تكون هذه الآليات بمثابة القاعدة لا الاستثناء!
لن يحصل ذلك بالاستغراق في المزيد من الفئوية والتبعية، أي من دون معالجة الخلل في بنياننا السياسي القائم والذي يراكم أزمات لبنان المتناسلة: من النفايات إلى التعطيل إلى تجاهل الأخطار… هذه مهمة وطنية في الدرجة الأولى.
* كاتب وسياسي لبناني