مأساةُ المسيحيين في لبنان أنهم كلما فكّروا في ما آلت إليه خياراتُهم السياسية شكّكوا فيها وارتدّوا عليها وفقدوا تحالفاتِهم. منذ بداية الحرب إلى اليوم، وحتى هذه اللحظة، لم يَثبُتوا على مشروع وطني يسيرون فيه حتى النهاية. وطرح الـ 10452 كلم مربع، الذي أجمع عليه اللبنانيون، لا يزال شعاراً ينقُصه المضمونُ الدستوري والقومي.
هل يعني هذا التأرجحُ أن المسيحيين معقَّدون “لا يُعجِبهم عجَب”، أو تراهم عانوا الأمرَّين من رهاناتٍ ظنّوا أنها خلاصٌ لويلاتِهم فكانت هلاكاً جديداً فباتوا يتحفّظون من كل شيء؟
يَشعر المسيحيون أن غالِبيةَ صيغ الحلولِ التي عُرضت لمعالجة “القضية اللبنانية” (الوجود المسيحي الحر، والتعايش المسيحي/الإسلامي) ارتطمت بتعقيداتِ تكوين لبنان وتاريخِه وموقعِه: إذا اعتمد المسيحيون وِحدةً مركزية جَبَهتهم الفوارقُ الحضارية المتفاقمة في المجتمع.
وإذا اقترحوا الفدراليةَ واجهتهم تعقيداتُ تطبيقها. وإذا ناداهم التقسيمُ وبّخَهم التاريخُ وعبَست بهم الديموغرافيا. وإذا طالبوا بالعلمنةِ علاجاً للطائفيةِ زَجَرتْهم الأديانُ واتهمتهم بالإلحاد.
هذه “الاستحالات” ولّدت عند المسيحيين حالتين نفسيتين: الأولى، “شعورٌ بالذنب” جَرّاء تشكيكِ الآخرين عمداً بطروحاتهم (وحدة لبنان امتيازات، الفدرالية تقسيم، والتقسيم خيانة)، والثانية “شعورٌ بالقلق” جراء تشكيكهم الذاتي في صوابيةِ خياراتهم وجدوى تضحياتهم.
هكذا، يعتقد المسيحيون أن قَبولهم لبنان الكبير كان صحيحاً، ويظنّون أحياناً أنه خطأ. يعتقدون أن المطالبةَ بالاستقلال كانت محقةً، ويَندمون أحياناً على انتهاءِ الانتداب الفرنسي. يعتقدون أن الديمقراطيةَ فخرُ لبنان، ويتمنون أحياناً ديكتاتوريةً تفرض القانون والنظام. يعتقدون أن التصدي للمؤامرة سنة 1975 كان الموقفَ المثالي، ويتحسّرون أحياناً على شهداءَ سقطوا في حربٍ يَجري غسلُ الأيدي منها مع أنها مقاومةٌ مشرِّفة.
يعتقدون أن الوجودَ السوريَّ كان احتلالاً وكان لا بد من مقاومته، ووجَدَ بعضُهم فيه مصدرَ جاهٍ وسلطةٍ وفائدة. يعتقدون أن “اتفاق 17 أيار”، لو وُقّع، لأدخلَ لبنانَ السلامَ النهائي، ويشعُرون أحياناً أن إلغاءَه أنقذَ البلاد. يعتقدون أن “اتفاقَ الطائف” أطفأ الحريقَ وثبّت لبنانَ وطناً نهائياً، وينتبهون أحياناً إلى أنه أضعف دورَهم وشلّ الدولة.
يعتقدون أن الهجرةَ في زمن العولمةِ أفضلُ من العذاب في وطن محفوفٍ بالأخطار الدورية، ويرفضونها أحياناً ويتشبَّثون بأرضِ الآباء والأجداد. يعتقدون أن الثنائيةَ المارونية ـ السنّية أجدى من المارونية ـ الشيعية، ويؤثرون عليهما أحياناً ثنائيات وثلاثيات أخرى. ويعتقدون أن الأحزابَ مستقبلُ الحياة السياسية، ويترحّمون أحياناً على أيام ِالعائلية والإقطاعية.
إذا ربِح المسيحيون معركةً شُغفوا بلبنان الـ 10452 كلم مربع، وإذا هُزموا اقتنعوا بما تَيسّر. إذا تأزمت أوضاعهم طالبوا بحماية أجنبية، وإذا فَرجت رفعوا رايةَ السيادة والاستقلال. إذا وقعت “حرب الجبل” فقدوا ثقتَهم بالدروز، وإذا عاد المهجرون إلى الشوف تناسوا كل المذابح والمجازر وتمنّوا إمارةَ الجبل.
إذا اعتدى فريقٌ سُنّي أصولي في طرابلس على سوري من جماعةِ النظام توهَّموا أن العملية جزء من مقاومة لبنانية، وإذا تغنّى سُنّة آخرون بالعروبة اعتبروهم حركةً ضد كيان لبنان. إذا تصدى الشيعة في الجنوب للبؤر الفلسطينية المسلحة افتخروا بهم وعَدّوهم وطنيّين، وإذا تعاطفوا مع إيران شكّكوا في وطنيتهم رغم مقاومتهم إسرائيل.
طالب المسيحيون باستعادة كيان لبنان التاريخي (لبنان الكبير)، وحكموه كأنه لبنان الصغير. أشاعوا أن الطائفةَ الدرزية أساس كيان الجبل، وتحالفوا مع السُنّة في دولة الاستقلال. تقبّلوا سنة 1969 “اتفاق القاهرة” مع منظمة “فتح”، وتساءلوا سنة 1975 كيف صار الفلسطينيون دولةً في قلب الدولة اللبنانية. أرسوا سنة 1976 حلفاً مع “سوريا الأسد”، وبعد فترة ضاقوا ذرعاً بردعٍ تَحوّل احتلالاً.
أدى بهم الخوفُ من حربِ إبادة إلى التعاونِ سنة 1982 مع المحور الأميركي/الإسرائيلي، ثم ما لبثوا أن قاطعوا إسرائيل لأنها أرادت فرضَ سلامٍ فوري وأحادي. رفضوا سنة 1986 “الاتفاق الثلاثي”، وقبلوا سنة 1989 اتفاقاً أسوأ منه هو “اتفاق الطائف”.
لا يعود هذا التأرجح إلى غيابِ الموقف لدى المسيحيين، بل إلى اصطدام أهدافِهم بالواقع. إن المسيحيين هنا لا يُعيدون النظرَ في ثوابتهم الوطنية التاريخية لكنهم يكتشفون فشلَ (أو إفشال) خِياراتهم الصحيحة نتيجةَ سوءِ التطبيق، أو انحرافِ بعضِ القيادات المسيحية، أو عدمِ تجاوب الفريق الآخر، أو التدخلاتِ الغريبة.
وبخلاف ما يتراءى لبعضهم، يعرف المسيحيون، منذ قديم الزمان، أنَّ ما يريدون هو: وجودٌ مسيحي حر، وطنٌ لبناني مستقل، مجتمعٌ متعدِّد راقٍ، علاقاتٌ وطيدة مع محيطهم العربي/الإسلامي، وانفتاحٌ حضاري على العالم الغربي/المسيحي. وحافظ المسيحيون في لبنان على هذه الثوابت في كل الظروف ولفظوا (وسيلفظون) كل قيادةٍ جَنحت عنها وساومت على الحرية والسيادة والاستقلال.
غير أن المسيحيين لم يُحصّنوا ثوابتهم العامة بمشروعٍ واستراتيجيةٍ وخطةِ عمل، فضاعوا في التفاصيلِ واليومياتِ والمصالح، وبين قياداتهم سيطر الحقدُ على المحبة، والأنانية على الخير العام، والحاضر على المستقبل، والاعتباط على التخطيط.
وفي غياب هذا المثلث (المشروع / الاستراتيجية / خطة العمل) تطورت حالةُ الحَيرة إلى حالة ضياع طالت الوسائل (شكل الدولة، حدود التعايش، خيار الحلفاء…) لكنها لم تمس الثوابت (حرية، أمن، سيادة، استقلال وانفتاح…).
وما زاد ضياع المسيحيين حيال الوسائل والخيارات أنهم مروا في أزمات ومآسٍ كيانية وأمنية في ظل جميع أشكال الدولة اللبنانية (من الإمارة إلى الجمهورية مروراً بالقائمقاميتين والمتصرفية)، وفي ظل جميع التسويات الطائفية (من “عامية أنطلياس” إلى “وثيقة الطائف” مروراً بالميثاق الوطني)، وفي ظل جميع التحالفات (من الفرنسيين إلى السوريين مروراً بالإسرائيليين والأميركيين).
من هنا، اختلط على المسيحيين العلاج المفيد بالمُضِر، وشعروا أن كل دواء يتناولونه ـ للشفاء من أزمة ـ ينطوي على مفعول سلبي يولّد أزمة أخرى.
من هنا لا بد من “عاميّة مسيحية” من دون خجل أو وجل، عوض الضياعِ في قوانينَ انتخابيةٍ لن تغير بمصير المسيحيين شيئاً. ليس المطلوب كتلاً نيابية لهذا أو ذاك، بل المطلوب وطن يحمي المسيحيين وكل اللبنانيين.