IMLebanon

تجربة كمال جنبلاط و«حوار» الهواجس  

إشكالية جوهرية طبعت النظام السياسي اللبناني منذ نشأته بالصيغة التي أعقبت الاستقلال شخّصها كمال جنبلاط وطرح بوجهها مشروعه الإصلاحي لكنه عاد وجسّد مظلوميّتها بشخصه وبخلاصات تجربته السياسية. فالمعلم أسّس الحركة الوطنية اللبنانية التي مثّلت في لحظة من اللحظات أكثر من 70 بالمئة من جغرافيا البلد وديمغرافيتها من دون أن يكون له موطئاً في البناء الفوقي للتركيبة اللبنانية.

هذه الإشكالية مسّت وتمسّ مرتكزات العيش في بلد نفترض فيه العدالة ركيزةً في بنائه القانوني والمساواة قاعدة للشراكة ولنظامه الديمقراطي.

قصة كمال جنبلاط مع النظام الطائفي يُعاد انتاجها اليوم بطريقة فاقعة وذلك في ظل الطروحات التي تُصر على تذكيرنا بأن في هذا البلد طبقات بشرية إحداها تصلح للقيادة الأولى وثانيها للثانية وثالثها للثالثة، وهكذا. سيّما وأن الإيجابية التي قاربنا بها مسألة التمهّل في تطبيق آليات الطائف ومنها إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وتشكيل مجلس الشيوخ أتت تأكيداً على المصالحة والشراكة ولإبعاد منطق الغلبة، لكنها ربما تكون قد فُهمت خطأً إذ تقابله اليوم واحدة من مظاهر المنافحة الفئوية غير المسبوقة في الحياة السياسية اللبنانية، مع العلم أن جزءاً من الخلل الذي أصاب المسيحيين أثناء حقبة الوصاية، أصاب غيرهم بالتوازي، وهو بحاجة إلى تقويم بطريقة منطقية، هادئة وشاملة، وهذا محط قبول، لا بل واجب على كل الأطراف، خاصة إذا حافظ ذلك على الوجهة العامة التي أوصى بها الطائف. ومع العلم أيضاً أن إجحافات تلك المرحلة طالت وتطال فئة كبيرة من اللبنانيين الذين ناضلوا لعقود من الزمن من أجل إلغاء الطائفية السياسية وبناء نظام مواطنة حقيقي، وهذا حقهم وحق أجيال اللبنانيين، الأمر الذي لو حصل لكان قطع الطريق أمام الجدل الميثاقي الذي نشهده هذه الأيام.

التحدي اليوم يأتي مُضاعَفاً لأنه يُظهر أن جزءاً في البلد يقرأ التاريخ بدءاً من لحظته فقط ويقف عند موروثات قديمة ويرمي علينا حواراً يتعلّق بالهواجس المتبادلة متجاهلاً كل ما راكمته الجهود التي أسّست لطي صفحة الحرب من خلال اتفاق الطائف الذي صحّح صيغة التعايش بين اللبنانيين، والمُلاقاة الإسلامية ـ المسيحية خاصة في العام 2000 والمصالحة التي كانت ممنوعة في ظل الوجود السوري، والتي أسّست لمحطة 14 آذار 2005 الوطنية. ومتخطياً أيضاً كثيراً من الوقائع التي ناضل فيها رجالات من المسيحيين بقوا أركاناً في حفظ الاستقلال اللبناني ومنهم من سقط شهيداً مثل الرئيس رينيه معوّض، ومنهم من خاض الانتخابات النيابية بما تيسّر من قوانين انتخابية، وساهم في عودة المهجرين وبنى الكنائس والصروح الثقافية لتشجيع العودة، ومنهم من ثبّت الحضور المسيحي في كل الأوقات الصعبة.

إن الحفاظ على الوزن السياسي للمسيحيين في لبنان يشكل الأساس الذي عملت القيادات الروحية والزمنية في البلاد على التسليم به ولاقاهم الإرشاد الرسولي في تكريسه لتعبير العيش معاً، ما يعني التفاعل والانخراط والاندماج في الحاجة المشتركة مع الآخر، وإذا كان ثمة حاجة للتعويض عن ثغرات طالت التمثيل السياسي لقوى وأحزاب في الشارع المسيحي، كما طالت غيرهم، أو ثمة استثمار واستفادة من وقائع جديدة نشأت في الساحتين الدولية والإقليمية فذلك يمكن أن يتم في سياق الحوار والتفاهم وضمن الثوابت التي تحافظ على الشراكة وتستكمل مسار المصالحة الوطنية. وللأمانة فإن الرئيس ميشال سليمان هو الذي تقدم بسلة بنود تكفل تصحيح الخلل المتعلق بصلاحيات الرئاسة الأولى بطريقة هادئة ورصينة أيدته فيها معظم القوى الرئيسية في البلاد. حينها أكدنا على إمكانية القيام بتعديلات مدروسة ومتوافق عليها في هذا الإطار.

مناسبة الحديث عن الذكرى الأربعين لاغتيال المعلم كمال جنبلاط في ظل النقاش الدائر حول قوانين الانتخاب والأحجام التمثيلية وصيغة النظام السياسي، لا شك تعيدنا إلى محطات واستحقاقات مشابهة تفاعل معها كمال جنبلاط بطرق متعددة، كان خلالها مقلّاً في الكلام مكثراً في العمل، إنما في جميع الأحوال فقد خرج من كل ذلك أقوى وأكثر رسوخاً في المعادلة السياسية، وكان كلّما رُفعت بوجهه حدود الطوائف كلما انطلق إلى رحاب الوطن المتجاوزة لهذه الحدود، وكلما حاصروه بالطائفة حاصرهم بالمشروع الوطني، وربما هذا ما لا يفهمه كثيرون عندنا يصرون على إعادة تكرار الأخطاء ذاتها وكأن التجربة لم تعلمهم شيئاً!.