IMLebanon

الإنفجار في طهران يضعها بين التطوير والإنتحار

 

كي تتجنَّب الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة سَفك دماء الحركة الشعبيّة الإحتجاجيّة لاحتوائها أمنياً حمايةً لاستمراريّة النظام الحاكم، سيكون عليها تطوير النظام جذرياً وليس مجرَّد إصلاحه كما طالبت إنتفاضة 2009 التي ساهَم الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما في طيّ صفحتها مُطمئِناً بذلك ملالي الحكم وأركان النظام وفي طليعتهم «الحرس الثوري».

قد يكون تطوير طبيعة السلطة وعقليّة المؤمنين بولاية الفقيه مهمّة مستحيلة لأنّ التطوير المطلوب والجديّ يستلزم احترام سيادة القانون الدولي وحقوق الإنسان واحترام الحريات الأساسيّة للناس إلى جانب معالجة البطالة والفساد والفقر – وكلّها مسائل مستعصية على الحلول وعلى فكر النظام في طهران.

هذا لا يعني أنّ نظام الملالي وبنية الجمهورية الإسلامية الإيرانية على وشك الإنهيار نتيجة الإنفجارالذي وقع في مدن وأرياف إيران بما في ذلك أصفهان ومشهد حيث القاعدة الشعبية الدينية للنظام، وتوسَّع إلى الأهواز وأقاليم أذربيجان حيث تتواجد أقليات من العرب والأكراد والتركمان والبلوش. ما يعنيه حدث 2017 هو أنّ إيران مقبلة على التغيير داخلياً بما سيؤثر على مشاريعها الإقليميّة في سوريا والعراق واليمن ولبنان.

المحرّك الرئيسي للتغيير هو أنّ الجيل الجديد بات في حال انفصام مع آلة النظام الهَرمة، وأنّ الناس عامة في إيران تعبوا من حكم نظام الثورة الإيرانية الذي يُقارب عمره الـ40 سنة.

فهذه معارضة شعبية انبثقت من الألم وهي عبّرت عن نفاذ الصبر بعد كبتٍ طويل. إذا تجاوب أركان النظام مع الموجات الآتية من الاحتجاجات بحكمة إعادة اختراع النظام لنفسه ليتأقلم مع المطالب في حركة تطوير للنظام، تكون الحكمة قد التقطت الفرصة لأخذ إيران الداخل إلى التنمية والحريات، ولأخذ مشاريع إيران الخارجية إلى التوقف عن التدخلات خارج الحدود الإيرانية.

أما إذا قرَّر مرشد الجمهورية والملالي وأركان «الحرس الثوري» أن لا هروب للشعب من النظام، أمام إيران مرحلة آتية خطيرة للغاية داخلياً ستكون إفرازاتها الخارجية مُرعبة لحلفاء إيران الإقليميّين ومقلقة لشركائها الدوليّين.

إعلان قائد «الحرس الثوري» الجنرال محمد علي جعفري الأربعاء «انتهاء الفتنة» يعكس عقلية متزمتة أساسها أنّ الانشقاقات مرفوضة، والمعارضة مخوّنة، وأن لا احترام إطلاقاً لحجم الآلام الشعبية، وأنّ النظام عقد العزم على الحلول الأمنية قطعاً. كلام رئيس المحكمة الثورية أتى ليُثبت أنّ فكر النظام لا يتقبّل سوى الاستفراد، وأنّه ينظر الى المعارض بأنه مشاغب وخائن يستحق الإعدام.

واقع الأمر أنّ الاحتجاجات الشعبية التي عمّت إيران لجمَت نشوة الانتصارات الإيرانية الإقليمية، الحقيقية منها والمزيّفة. فالخوف شقّ طريقه إلى حلفاء «الحرس الثوري» من تنظيمات وميليشيات، وإلى أولئك الذين افترضوا أنّ الإنجازات الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن باتت عقد تأمين لهم حتى إشعار آخر.

المشهد في إيران الذي امتدّ من الأيام الأخيرة لعام 2017 إلى الأيام الأولى من 2018 كبَحَ التظاهر بأنّ مغامرات «الحرس الثوري» في حروب السيطرة على العواصم العربية قد أفلحت في إخراج إيران وحلفائها سالمين منها وباتوا فوق المحاسبة. فبطولات قاسم سليماني سقطت في الشارع الإيراني.

لقد تمّ تسويق المغامرات العسكرية الإيرانية خارج الحدود بأنها حروب استباقية ضد تنظيم «داعش» في أراضي سوريا والعراق كي لا يُحاربه النظام داخل الأراضي الإيرانية.

هو ذا هو المنطق ذاته الذي تبنّاه الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش عندما خاض حرب الإرهاب في العراق، ثمّ تبنّاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما خاض حرب الإرهاب في سوريا، وعنوانه: إبعاد المعركة عن الأراضي الوطنية. إيران بدورها استرقت الفكرة وجعلت منها شعاراً لبطولة وإنجازات «فيلق القدس» في «الحرس الثوري».

جورج دبليو بوش لم ينجُ من المحاسبة الشعبية له على حرب العراق. فلاديمير بوتين بدأ يحسّ بصقيع حرب سوريا بعدما حشَد تبريراتها لدفءٍ يحتاجه في الساحة الشعبية الروسية. وفي إيران أثبتت موجة الاستنكار الشعبي للحال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي داخل إيران أنّ أولويات النظام التوسعية في الجغرافيا العربية ليست أولوية الناس في المدن والأرياف الإيرانية.

إنما السطوة الداخلية والسلطوية القاطعة فإنها ميزة تجمَع بين الحكم في طهران والحكم في أنقرة. فلقد أسرع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى التضامن مع الحكومة الإيرانية وأبلغ الرئيس الإيراني حسن روحاني ضرورة حماية «السلم والاستقرار».

تجربة أردوغان مع المعارضة التركية سجّلت له انتصاراً على محاولة الانقلاب – التي يَزعم البعض أنها كانت مفبركة لتحقيق هدف شدّ أواصر السطوة والسلطوية لحكم أردوغان – وهو عازم بأيّ ثمنٍ كان على البقاء في السلطة شأنه في ذلك شأن فلاديمير بوتين في روسيا ونظام الملالي في إيران.

أردوغان قلق من التداعيات الأمنية على تركيا نتيجة الحدث في إيران. إنه في هوسٍ دائم من العنصر الكردي وفي عزمٍ دائم على احتواء الطموحات الكردية بشراكة تركية – إيرانية ثنائية وإقليمية.

ما زادَ من قلق أردوغان أنه رأى أنّ التطورات في الشارع الإيراني قد تخدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أوضح معارضته للنظام في طهران عندما أطلق استراتيجيّته نحو إيران وأكمل التعبير عن عزمه المساعدة في إقصاء النظام إنما عند «الوقت المناسب». فأيّ ما يُقوّي ترامب يُرعب أردوغان.

فلاديمير بوتين له اعتبارات مختلفة. فهو من ناحية قلق أيضاً من نسخ المظاهرات الشعبية الإيرانية في المدن والأرياف الروسية، شأنه شأن أردوغان.

وهو كذلك لا يريد انتصارات لدونالد ترامب في الشرق الأوسط – بالذات في عقر دار الشريك الاستراتيجي المهم لموسكو أي الحليف الإيراني. إنما من ناحية أخرى قد يرتاح بوتين – وكذلك أردوغان – إلى شريك إيراني أضعف في سوريا بدلاً من أن يبقى كما هو الآن.

الأهم هو أنّ مستقبل الوضع في داخل إيران أمر يُقلق روسيا نظراً للعلاقة الاستراتيجية بينهما. ثمّ أنّ الانفجار في إيران له صدى على المشاريع الروسية في الشرق الأوسط حيث موسكو تحشد الأولوية لتأمين سوريا في دائرة المصالح الروسية البعيدة المدى.

أميركياً، واضح أنّ دونالد ترامب اتخذ قرار الانقلاب على سياسات سلفه باراك أوباما نحو إيران إنما دون أن يشمل ذلك تمزيق الاتفاق النووي مع طهران – ما لم تفرض الضرورة ذلك. أوباما أقرّ بشرعية النظام في طهران واعتبره تعبيراً حراً للشعب الإيراني عن اختياره هذه الحكومة.

أما ترامب فإنه لا يستخدم سوى تعبير «النظام» ويُندّد بقمعه لشعبه ويتعهّد بدعم الحركات الاحتجاجية التي قد تفضّل ألّا يعبّر ترامب عن وعود مستقبلية لها تؤذيها أكثر مما تساعدها.

لربما من الساذج تقنين السياسات الأميركية العليا بهذا الرئيس أو ذاك. ولربما القرار الأميركي الاستراتيجي الآن هو الكفّ عن تغليب يد إيران الإقليمية بدءاً من تقديم العراق هدية لها عبر حرب بوش في العراق واستكمال الهدايا نووياً وإقليمياً في سوريا ولبنان واليمن عبر باراك أوباما.
فلا استهجان في التدخل الأجنبي – الأميركي أو البريطاني أو الروسي أو غيره- في الشرق الأوسط.

وليس من الاستحالة إقصاء أو إسقاط نظام يبدو في غاية القوة. إسقاط الشاه بَدا مستحيلاً عام 1979، كما إسقاط الرئيس حسني مبارك في مصر والعقيد معمر القذافي في ليبيا في «الربيع العربي» الذي تحوّل سريعاً إلى شتاء عاصف.

باراك أوباما دعم إسقاط مبارك بدعمه «الأخوان المسلمين» بعدما أسقط جورج دبليو بوش صدام حسين في العراق. حلف شمال الأطلسي (ناتو) أسقط القذافي في ليبيا. روسيا وإيران منعتا إسقاط بشار الأسد في سوريا. فلا استهجان أمام التدخلات الأجنبية في الحركات الشعبية في الشرق الأوسط.

الجديد في الساحة الإيرانية هو أنّ الاحتجاج الشعبي هو على الخلل في بنية نظام تحكَّم واستبدَّ وأفقرَ بلاده باسم انتصارات إقليمية لا تهمّ المواطن الإيراني – بل تُحرج معظمه. الجديد أنّ «الحرس الثوري» دخل في أول مواجهة مع الجماهير الإيرانية بما في ذلك تلك في مشهد وأصفهان.

إلتهاؤه بحجم الاحتجاجات على أدائه سيؤثر على مشاريع «الحرس الثوري» الإقليمية. إضطراره للتركيز على ضبط الحركة الشعبية داخلياً لتبقى ملتزمة بالنظام سيُخفّف من حركته الخارجية.

يوم الإثنين المقبل ذكرى وفاة أقوى الرؤساء الإصلاحيين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أكبر هاشمي رفسنجاني. أحد المراقبين المخضرمين للمشهد السياسي الإيراني قال إنّ غياب رفسنجاني أثّر جذرياً على روحاني وشلّ حركة ردّة فعله وأضعف قدرته على الإمساك بالأمور.

إذا كان له أن يساهم في إدارة البلاد نحو الحكمة وتطويرالنظام، لا بدّ لروحاني من الإمساك بمستقبله، إما بشراكة مع الرئيس السابق محمد خاتمي أو بقيادة جديدة. فالانفجار احتجاجاً على بؤس أوضاع معيشية مهم، كما الانتفاض على نظام شاخ، إنما التغيير يحتاج برنامجاً سياسياً وقيادة وفكراً جديداً ينطلق من الإقرار بالحاجة الى تطوير النظام.