14 شباط 2005 تاريخ أسود، مظلم وظالم، شاءت الظروف أن أتابعه عن قرب، كنت في ذلك الوقت أتهيأ لخوض غمار الانتخابات النيابية المقبلة في بيروت، في الوقت نفسه الذي كانت فيه العلاقات في قمّة التأزم ما بين الرئيس الحريري وبين النظام السوري الذي كانت مخابراته وأعوانها، تعد العدّة لتنفيذ جريمة العصر التي قدّر لها أن تغيّر مجرى تاريخ هذا البلد، كانت المخابرات السورية التي أمسكت بزمامه على مدى يناهز الثلاثة عقود، وكانت رياح التأزم تعصف بالبلاد إلى حدود أخذت فيه ملامحها ومعالمها تتبدى للأسماع والأبصار وتبرز بوضوح في استنتاجات واستخلاصات كل المتابعين العابقة بروائح أحداث خطيرة قادمة.
يوم الجمعة في 11 شباط 2005، كان الرئيس الحريري قد دعا عدداً من اصدقائه والمقربين منه إلى الغداء في قصر قريطم، الحديث العام، كان مطعّماً إلى حدود بعيدة بالمداولة الانتخابية كما كان مطعّماً اكثر بما كان يردده البعض همساً ووشوشة تارة، وبالكلام الواضح الصريح تارات مرتبطاً بالشائعات والأقوال التي كانت قد بدأت تعم معظم الأوساط، ومفادها أن هناك خطراً داهماً يحوم حول سلامة الرئيس الشهيد وأن مريديه ومحبيه، ومن بينهم أولئك الذين كانوا على طاولة الغداء في ذلك اليوم، يتحسبون ويتخوفون وينقلون تحسباتهم ومخاوفهم اليه. وكان الرئيس يحاول أن يطمئنهم وأن ينقل اليهم أن هذه التحسبات وان هذه المخاوف، مبالغ فيها وأن الله عز وجل هو الحامي والحافظ من كل ضرر وخطر وانه في مطلق الأحوال مزود بتطمينات من قبل دول مهمة عديدة ومن قبل رؤسائها، بأن لديهم ضمانات منهم تؤكد أنه لن يتم التعرّض إليه.
بعد الغداء كان الحديث الذي حصل في الصالون أكثر صراحة وأكثر تحسباً وتخوفاً. وكان ذلك واضحاً خاصة في ملاحظات المشاركين فيه. وأذكر اني قلت لدولته في ذلك اليوم: «يا دولة الرئيس لا بدّ من أخذ الحيطة والحرص الشديد… التحسبات والمخاوف تدور على ألسنة الكثيرين»، فلم تبدو على ملامح الرئيس الشهيد أية ردة فعل واضحة، وكان ينفي ان الوضع سيئ إلى هذا الحد، بل كان يشفع اقواله ببسمة عريضة لعله كان يهدف من خلالها الى زرع الطمأنينة في النفوس القلقة على سلامته.
خلال نقلي لهذا الكلام إليه كان رفيق استشهاده أبو طارق العرب، الذي شاء القدر أن يطاوله الانفجار المجرم هو أيضاً فيترافق جسده وروحه مع جسد وروح الرئيس الشهيد، إلى الدنيا الآخرة، يحضر إليه لينقل إليه رسالة مستجدة عن طريق الوشوشة، ويبدو انه سمع التحذيرات التي كنت انقلها اليه، وعند خروجي من اللقاء استوقفني الشهيد أبو طارق ليقول لي، وقسمات وجهه مائلة إلى العبوس: لقد سمعت ما قلته للرئيس، ارجوك وأرجو كل أصدقاء الرئيس ومحبيه ان يؤكدوا له هذه التحذيرات ويقنعوه بجديتها.
ومرّت ساعات، وكان يوم الاثنين المشؤوم. كنت في غرفة التجارة والصناعة أتابع بعض أعمالي، ودوّى صوت الانفجار القاتل. انفجار دل بقوته ومداه وما خلّفه من اهتزازات حادّة وما تركه في الآذان من ارتدادات صوتية هائلة، مما جعلني استنتج فوراً وبصورة عفوية أن هذا الانفجار الهائل طاول الرئيس رفيق الحريري. وما لبثت الحقيقة أن اتضحت، وكان الخبر البغيض. استشهاد الرئيس الذي قلب الوضع اللبناني رأساً على عقب، واستتبع استشهاده، جملة من التطورات التاريخية التي قلبت لبنان والمنطقة بأوضاعهما كافة… رأساً على عقب وإلى سلبياتها الأمنية الحاشدة التي طرأت واستمرت إلا أنها التي وحّدت اللبنانيين عموماً في الرابع عشر من اذار وأنتجت ولأول مرة في التاريخ اللبناني، احتشاداً مليونياً ملأ الساحات اللبنانية الأساسية، وكان منطلقاً لنشأة وحدة وطنية شاملة ولنشأة أول تكتل سياسي أطلقت عليه نفس تسمية ذلك اليوم آلذي كان انتفاضة جامعة أخرجت احتلال النظام السوري لهذه الأرض التي عانت طويلاً من وجوده ومظالمه وجرائمه الصغيرة والكبيرة وأكبرها حجماً وأثراً، لأن تلك الجريمة التي طاولت الرئيس الحريري في حياته وقيادته وزعامته وعلاقاته الدولية وأفقه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الواسع. وها هي عشر سنوات تمر على استشهاد ذلك القائد الذي أحيا في اللبنانيين أمل الإنقاذ والخلاص، وأعاد إرساء هذا الوطن على أسس سليمة معافاة، يكون للبنان فيها دولة حقيقية راسية وقائمة على قواعد ديمقراطية ثابتة وعلى رأسها دولة قوية حقيقية، طائلة وقادرة، لا تعصف بها الرياح الضعيفة والقوية في كل مناسبة، ومع كل حركة طارئة او مقصودة ومشغولة من رياح الأحداث والأهواء والتيارات الداخلية والخارجية.
وكما حذر الكثيرون الرئيس الشهيد من كل ما طاوله من مخاطر قبل حصولها، ها نحن نحذر مع كثيرين اليوم من جملة من الظواهر والأحداث التي ظهر بعضها في الأفق القريب، في مرحلة الاحتمال والتوقع.
كما نحذر الأوساط الوطنية جميعاً، وبالذات حركة 14 آذار، فهي تعاني اليوم من عدة تحديات ومساوئ ومخاطر، ولا بد من أجواء جديدة تعيدها إلى الصمود والصلابة، وإلى روحها الانتفاضية التي جعلت من لبنان بلداً قابلاً للانتقال الى روح العصرنة وواقع الدولة الحديثة والوطن المتماسك المتضامن بأرضه وشعبه ومؤسساته. نحذر بإخلاص وقوة ولئن كان رفيق الحريري الذي صنع باستشهاده ذلك الانقلاب الذي أحيا روح المواطنية الصحيحة لدى اللبنانيين، فاللبنانيون الذين خلقت منهم انتفاضة 14 أيار لقادرون على ان يستأنفوا هذه الحركة ويجددوا مسيرتهم وبناء وطنهم سليماً معافى.