لم يتحّرك الملف السوري منذ بدايات الأزمة كما حدث في الأيام القليلة الماضية٬ هذه الصدمة التي تجوب العالم كله عبر ردات الفعل تجاه الصور المؤلمة المقبلة من مدينة حلب التي تباد بشكل غير مسبوق بعد الحرب العالمية الثانية وبطريقة تطرح تساؤلات خارج وحشية نظام الأسد المسنود باندفاع روسي محموم٬ فالمسألة تتعلق باستغلال الوقت بأكبر قدر ممكن٬ فلعبة الوقت هي كل ما يراهن عليه نظام الأسد٬ ومن الواضح أن تسارع خطوات النظام لاستهداف مناطق تكدس المعارضة والمقاتلين قائم على خلفية الوقت واستغلال هلع المجتمع الدولي من تضخم فرص وحظوظ الإرهاب العابر للقارات.
هذا التدمير الوحشي لحلب كارثة إنسانية على سكانها العّزل٬ وغالًبا ما سيحظى المقاتلون بفرصة الانسحاب باتجاه محافظة إدلب (50 ألف مقاتل بحسب تقرير أميركي حديث) كما حدث بعد استهداف النظام لداريا٬ إلا أن الهدف هو الإسراع بإعلان النصر المؤقت على حلب بأي ثمن قبل تسلم ترامب وإدارته لمهامها٬ بمعنى آخر أن يدخل ابتلاع حلب بهذه الطريقة في قائمة المفاوضات٬ باعتباره أمًرا واقًعا حدث في عهد الرئيس أوباما.
التقدم باتجاه حلب ليس انتصا ًرا بالمعنى العسكري٬ فما حدث هو استقواء بالطائرات الروسية لقصف عشوائي يستهدف المدينة بسكانها٬ إضافة إلى قصف مدفعي عقب ذلك٬ إضافة إلى تقارير بريطانية تحدثت عن أفواج من المقاتلين الإيرانيين من الميليشيات الشيعية وصلت إلى حلب وبرقم قياسي غير مسبوق٬ بلغت بحسب «ديلي ميل» البريطانية 60 ألف مقاتل٬ باعتبار أن المعركة والسيطرة على هذه المدينة مسألة ستكون فارقة في توازنات النظام وخلخلة المعارضة التي تعيش انقسا ًما على خلفية هذا الاستهداف وآليات التعامل معه.
في المقابل٬ تراجع عدد المقاتلين في صفوف المعارضة بشكل كبير٬ وتشير التقارير إلى أنهم لا يبلغون 10 آلاف مقاتل مقسمين على 6 تنظيمات رئيسية تعاني من ضعف الإمدادات والاستراتيجيات المشتركة٬ إضافة إلى انقطاع التواصل الميداني بينها.
من ناحية سياسية٬ فإن الغاية من إنهاك المعارضة وتقسيمها هي إيصال رسالة إلى المناهضين لبقاء الأسد في المجتمع الدولي أنه لا يوجد بديل سياسي/ عسكري لنظام الأسد٬ وبالتالي فمن المرشح إن سقطت حلب وبعدها إدلب أن يعيد المقامرون بالشعب السوري على مصطبة السياسة النظر في بقاء الأسد ولو بشروط تفاوضية ضعيفة وهشة.
واحدة من ويلات الأزمة السورية هو الاختلال في توصيفها بين القوى الدولية والأطراف الإقليمية المتضررة من بقائها وتضخم حظوظ وفرص تكون منصات لتجنيد مزيد من الإرهابيين٬ فما تفعله الـ«ميديا» من استعراض المآسي بقدر أنه يجلب سخط العالم على النظام كردة فعل غير مؤثرة على الأرض٬ فإنها تمثل أكبر مضخة تجنيد لكوادر شبابية لا ترى أملاً سياسًيا فتنخرط في الخيار المسلح في ظل بقاء الدوافع المنتجة للأزمة٬ وعلى رأسها الانخراط الإيراني الروسي في الأزمة بشكل مباشر في ظل عجز دولي عن إيقاف الحرب بأي ثمن.
واحدة من أزمات المعضلة السورية هي أن القرار بات الآن بيد روسيا المندفعة لتثبيت النظام والولايات المتحدة التي تعيش تحولات كبيرة على مستوى الاستراتيجية السياسية الخارجية٬ لكنها تحتاج إلى وقت ليس بقصير لتأخذ طريقها إلى الواقع. والخطأ منذ البداية من الطرفين فيما يخص ملف سوريا هو إخراج الأطراف الإقليمية من المعادلة السياسية وبطريقة مستفزة٬ مع أن الحراك الحقيقي مع بداية الأزمة السورية كان حرا ًكا عربًيا٬ كما أن تصدير الأزمة السورية كان بسبب الموقف التاريخي للمملكة ودول الاعتدال العربي٬ كما أن إيجاد أي مخرج سياسي للأزمة لن يكتب له النجاح في حال تم استبعاد دول المنطقة المعنية بسوريا وشعبها تاريخًيا٬ هذا إذا ما أخذنا أي ًضا في الاعتبار أن تبعات ما بعد الأزمة السورية ستنعكس على بلدان كثيرة.
التوصيف بأنها حرب أهلية جزء من أزمة غياب حل وشيك للمعضلة السورية٬ فهي من ناحية أخلاقية وإنسانية مساواة بين نظام دموي قاتل وأبرياء عزل تطالهم أتون الحرب أكثر مما تطال الإرهابيين على الأرض٬ كما أن التاريخ الحديث لسوريا الأسد «العائلة» يؤكد أن ردة فعل النظام في كل مرة هو الخيار المسلح٬ كما هو الحال مع فلسفة حزب البعث الأمنية في إدارة البلاد.
هذه حرب تدميرية بكل ما تعنيه الكلمة لن تنتج في النهاية إلا أر ًضا خراًبا وصورة نظام هش لا يملك القدرة على إدارة البلاد مجدًدا٬ وشعًبا مباًدا أو في أحسن الأحوال مهجًرا إلى بلدان العالم جميعها بذاكرة لا يمكن لها أن تغفر للعالم هذا الخذلان