IMLebanon

فشل المتطرفون والبديل لم يكتمل

من الأسباب الكثيرة التي أوصلت العرب إلى الدرك الأسفل عقلية التطرف في كل الاتجاهات، ورفض الآخر، وتغليب سياسة الإنكار، واتباع أساليب كسر العظم وقمع الحريات، واعتبار الحوار الهادئ والموضوعي ضعفاً أو تنازلاً على رغم العلم أنه السبيل الوحيد لإيجاد الحلول ونزع صواعق التفجير ورأب الصدع مع الوصول إلى الحل الوسط.

هذه العوامل ساهمت في ما وصل إليه العرب من حروب وخلافات وتشرد وأزمات مستعصية، يضاف إليها عنوان مهم وهو التعنّت ورفض الاعتراف بالفشل والامتناع عن إصلاح الأخطاء والكف عن ارتكاب الخطايا القاتلة.

فكل الأطراف في الحكم والمعارضة، على اختلاف اتجاهاتها، تمارس السياسة وشؤون الناس وفق أسلوب «أنا أو لا أحد»، أو «أنا ومن بعدي الطوفان» أو حتى العقلية الشمشونية المتمرسة في مبدأ «عليّ وعلى أعدائي يا رب».

وهكذا ابتلينا عبر السنين بالكوارث والمصائب والانهيارات والسير في طريق خاطئ معاكس لكل مقتضيات العمل العام ولمتطلبات الأوطان والشعوب وحقوقهم وحاجاتهم الأساسية، ما أدى إلى تآكل المؤسسات وعشعشة أوكار الفساد وانهيار البنى التحتية للأوطان.

ومهما عدّدنا من أسباب وخطايا وأخطاء، فإننا لا نوفي الواقع حقه ولا نعبّر عن الحقيقة المرة التي نعيشها والتي انفجرت كل موبقاتها خلال العقد الأخير لتكشف العورات وتفضح المستور، من دون أن نتّعظ من العبر والدروس.

إلا أن التركيز اليومي يجب أن يتناول اليوم عنصرين مهمين في تقرير مصير الأمة ومستقبل الأوطان، وهما: قوى الاعتدال العربي واتجاهات التطرف الديني والقومي والسياسي، ولا نعفي أحداً من المسؤولية، فإن كل طرف لعب دوراً أساسياً في مسيرة الانهيار إلى أن وصلنا إلى معادلة مؤسفة ترتكز على فشل التطرف بكل تجاربه السابقة واللاحقة، وجبن المعتدلين وعدم بذلهم جهوداً للعب دور المصلح والرافض للتطرف والمقاوم للظلم والتفرد بالحكم ولسياسة العزل والاجتثاث والنفي والإقصاء.

والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، إلا أن كل منصف وباحث موضوعي لا يمكن إلا أن يصل إلى هذه النتيجة لأن التفاصيل والدلائل والإثباتات لا حصر لها، وهي تنحصر في رضوخ المعتدلين للأمر الواقع واستسلامهم للقوة المعراة، وعدم الاستعداد للمواجهة والنضال بكل الوسائل السلمية والشعبية والإعلامية. وهذا الفشل المتوّج بالجبن والتخاذل له أمثلة كثيرة على امتداد القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، إذ سحقت كل التجارب الديموقراطية ودمرت المؤسسات والهيئات الأهلية والشعبية والإنسانية، وسقط المعتدلون عند أول ضربة كف أو فـــور وقــوع انقلاب ما أو سيطرة فئة على مقـــالــيد الحكم، وتفرّقوا بين صامـــت ومسافر ومنفي وسجين ويائس وفاقد أي أمل بإحداث تغيير أو إصلاح للأمور، باستثناء صرخات من هنا وهناك أو بروز حالات نادرة عبّرت عن رأيها ثم اختفت أو ملت من التكرار.

إلا أن الفشل الأكبر يكمن في ظواهر عدة مهمة، وهي عدم وجود رابط مباشر بين المعتدلين وغالبية المواطنين الذين ينضوون تحت راية الاعتدال، وغياب الشخصيات البديلة التي تتمتع بكاريزما مقبولة أو تتبنى سياسة حكيمة. وبالتالي، فإن عدم طرح برنامج عمل شامل ومتكامل وعملي مقبول قد كرّس هذا الفشل.

وينطبق على المتطرفين ما ينطبق على المعتدلين في مختلف المجالات، مع الاعتراف بأن قوى الاعتدال لم تتمكن من الوصول إلى سدة الحكم وممارسته بحرية ولفترة أطول. فكل التجارب الديموقراطية أجهضت، وهي طريّة العود وضرب أركانها واتّهموا بالخيانة والعمالة، ولكن من دون أن نشهد تحركاً مضاداً ورافضاً لهذه الممارسات، بل سلّم أغلبهم أمره واستسلم للواقع المرير، وفي حالات نادرة، مثل مصر بعد ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، ناضل الشباب ورجال الفكر والنخبة وضحّوا بأرواحهم، ولما حانت لحظة الحقيقة وبانت بشائر النصر عادوا إلى بيوتهم وتركوا الحبل على غاربه للانتهازيين والمتطرفين.

أما فشل الجماعات المتطرفة، فهو سمة المرحلة، وله أمثلة كثيرة أعددها بسرعة في هذه العجالة:

– خلال الأحداث الأخيرة في ما سمّي بـ «الربيع العربي»، ركب المتطرفون الموجة وتحكّموا بالأوضاع ولجأوا إلى أسلوب القمع والقتل وإشاعة أجواء الكراهية، وتوزعوا بين متطرفين وأكثر تطرفاً وأشد تعنتاً… إلى أن قضوا على رجال الثورات ووصلوا إلى حالة انتحار جماعي بعدما نحروا الأوطان وشرّدوا الشعوب وكفّروا الغالبية.

– في مصر، استولى الإخوان المسلمون على الحكم بعدما نجحوا في استغلال الثورة وشرذمة القوى المعارضة الأخرى، لكنهم وصلوا إلى الحكم بسبب سلبية القوى الوطنية وعزوفها عن المشاركة في الانتخابات وغياب المشروع الوطني الشامل والهادف لحل المشكلات، لكنهم فشلوا بسرعة بسبب اتباع سياسة الهيمنة وإقصاء الآخرين والاستسلام لشهوة السلطة، فكان ما كان، وسقطت التجربة بعد سنة واحدة وانتهى الإخوان بين سجين وطريد ومنفي.

– في السودان، قاد الإسلاميون انقلاب الرئيس الحالي عمر البشير بزعامة رئيس «الجبهة القومية الإسلامية» الدكتور حسن الترابي، الذي انتهى في السجن إلى أن توفاه الله. وبدلاً من طرح مشروع هادف لإنقاذ السودان وفق شعار رفعه كل الإسلاميين في الماضي وهو «الإسلام هو الحل»، عم الفشل وجرى القضاء على القيادات الإسلامية بعد طرد أسامة بن لادن، زعيم «القاعدة»، ليستقر في أفغانستان ويُقتل بعد سلسلة أحداث دامية.

– وفي الجزائر، كان يمكن لـ «جبهة الإنقاذ الإسلامية» أن تدير البلاد بأسلوب عصري بعد فوزها في الانتخابات العامة، لكن أسلوبها في التعامل مع الآخرين وعدم اعتبار وضع الجيش ونفوذه انتهى بها إلى السجن والحرب المفتوحة لتفشل هذه التجربة الإسلامية وهي في المهد.

– وفي فلسطين، كانت حركة «حماس» رائدة في مجال العمل الإنساني والوطني، إلا أن ظروف إنشائها وسكوت الإسرائيليين على امتداد نفوذها ومن ثم إقدامهم على الانسحاب من قطاع غزة فجأة، حمل القيادات «الحمساوية» على تنفيذ حركة عسكرية متسرّعة على رغم فوزها في الانتخابات، ما أدى إلى فصل القطاع عن الضفة في ظروف حرجة والعيش في حصار قاتل، مع أنه كان بإمكان «حماس» أن تحقّق إنجازات كبرى لو واصلت عملها الإنساني والوطني ومدت يديها إلى «فتح» والفصائل الأخرى لبناء وطن فلسطيني موحد وقادر على مواجهة إسرائيل، بدلاً من الوقوع في فخ شهوة السلطة القاتل وممارسة حكم ناقص لم تنضج بعد شروط نجاحه.

– وهناك تجارب إسلامية أخرى انتهجت النهج الديموقراطي، بينها تجربة «حركة النهضة» في تونس التي قبلت العمل المشترك بانتظار ساعة الانتقاض على الحكم. أما تجربتا الأردن والمغرب مع الأحزاب الإسلامية، فقد جرتا بإرادة ملكية رغبت في تحميلهما مسؤولية الحكم، ولكن سرعان ما برزت عوائق وثغرات وأخطاء أفقدتهما قوة الدفع وتحولتا إلى ما يشبه الأحزاب الأخرى.

وأختم مع تجارب أخرى لأحزاب إسلامية واتجاهات برزت بعد الثورة في إيران وتصديرها إلى الدول العربية، وهي في غالبيتها تنتمي إلى الطائفة الشيعية. فهي لا تختلف عن التجارب الأخرى من حيث غياب البرنامج الشامل ورفضها الآخر والهيمنة على السلطة بواسطة السلاح أو بخوض انتخابات غير متكافئة.

هذه النظرة السريعة تحتاج إلى مجلدات للخوض في غمارها وكشف خباياها، لكن وضع اليد على مواطن العلل يرسم الطريق الصحيح لإلغاء معادلة الفشل والتطرف والمضي في تصحيح المسار وإنقاذ الأمة.