IMLebanon

وجوه الشّاشة يَروون لـ«الجمهورية» ذكريات الإبادة الأرمنية

يُحيي العالم اليوم الذكرى المئويّة لأفظع مجزرة عرفتها البشريّة، بعد إبادة نحو مليون ونصف مليون أرمني على يد السلطنة العثمانيّة التي فتكت بشعب كان يريد العيش بحريّة، مُتخطية الأعراف العالميّة والقيم الإنسانيّة، فدخلت تركيا التاريخ الحديث من باب الإبادة والمجازر والقتل والبطش، فيما عبر الشهداء الأرمن الى جنّة الخلود. حاولت تركيا إسكات الصوت الأرمني، لكنّها لم تعرف أنّه صوت هادر لا يهدأ، يصرخ في وجه الظلّام والسلاطين، واجهَ السواطير التي ذبحت رقابه وتحوّل الشهداء الأرمن أساطير تحكي عنها الأجيال المقبلة.

مئة عام وذاكرة الأرمن لا تنسى شهداءها، في كلّ بيت أرمنيّ في برج حمّود والمتن والأشرفيّة وزحلة وبزمّار وطرابلس صورة شهيد، نطقَ قبل شهادته كلمة المسيح رافضاً مخالفة مبادئه، وتحوّل الأرمني مدرسة تُعلّم العالم وتعطي دروساً في حفظ الذاكرة الجماعيّة والوفاء لشهدائها، والتمسّك بإيمانها، متغلّبة على كل الصعوبات والمشقّات.

الشعب الأرمني شعب مناضل بالعلم والعمل، لا يهدأ له بال إلّا بتحقيق العدالة الدوليّة وإلزام تركيا الإعتراف بما ارتكبته أيديها من مجازر، ومعظم قادة العالم وشعوبه تتضامن مع قضيّتهم المحقّة، من قداسة البابا فرنسيس الذي وصفها بـ»الإبادة»، الى البرلمان الاوروبي الذي طالب أنقرة الاعتراف بالإبادة، ومعظم الدول الاوروبيّة والغربية، وبالتأكيد لبنان البلد الذي حَضن الأرمن، وهم لم يبخلوا يوماً عليه وساهموا في نهضته.

مقبل وريفي عكس الإجماع

نعم، إنّهم ليسوا شهداء، بل ملايين الشهداء، وليسوا شهداء عاديّين بل هم قديسون. وقد تكرّس هذا الأمر رسميّاً أمس، حيث أعلنت الكنيسة الارمنية قداسة ضحايا الإبادة الأرمنية في احتفال رسميّ بمناسبة الذكرى.

لبنان الرسمي والديني يشارك في ارمينيا في فاعليات الإبادة، فيما قلّة قليلة تخرج عن هذا الإجماع الوطني وتخدش مشاعر فئة مهمّة من شعبها، وهذا ما فعله نائب رئيس مجلس الوزراء سمير مقبل ووزير العدل اللواء أشرف ريفي بتمثيلهما لبنان في مؤتمر السلام الذي نظّمته تركيا أمس لمناسبة مرور مئة عام على معركة غاليبولي.

والسؤال الذي يطرح: لماذا خالف الوزيران الإجماع اللبناني؟ ولماذا اختارا هذا التوقيت بالذات تزامناً مع إحياء الذكرى لبنانياً وعالمياً؟ أما كان الأجدى بهما الاعتذار والبقاء في لبنان إلى جانب شعبه أو على الأقل إطلاق موقف من تركيا يندّد بالإبادة ويطالب بالاعتذار. وبالتالي من المسؤول عن هذا الخطأ الفادح الذي يحتاج الى توضيح إحتراماً لمشاعر الأرمن خصوصاً واللبنانيين عموماً، وهو يتطلّب توضيحاً رسمياً؟

قرنٌ مرّ على الإبادة الأرمنية، ولا يزال اللبنانيّون الأرمن يستحضرون ماضياً أليماً طُبِع في ذاكرتهم. و»لأنّ الحقّ حقّ ولو عمرو فوق الـ 100»، كانت لكلّ الأحزاب اللبنانية وخصوصاً حزب «القوات اللبنانيّة» التفاتةٌ خاصّة في الذكرى، من خلال احتفال تضامنيّ مع أخوته في الإنسانيّة والوطنيّة، أُبعِدَت عنه السياسة ليأخذ الطابع التاريخي والروحي، انطلاقاً من أنّ الشهادة والنضال يشَكّلان العنوان العريض الذي يَجمع بين الفكرَين القوّاتي والأرمني.

ووسط هذه الأجواء المميّزة، التقَت «الجمهورية» على هامش الاحتفال، عدداً من الحضور، وأبرزُهم كانوا من نجوم الشاشة، الذين أكّدوا أنّهم لا يزالون يقرأون الحاضر من صفحات تاريخ لم يعترف به مدمّموه.

الله يمدّنا بالقوّة

«فجأةً، لم ترَ جدّتي سوى أربع جزمات تقتحم المنزل»، يقول الإعلامي نيشان ديرهاروتيونيان لـ»الجمهورية»، «ومن ثمّ تقترب من قدمَي والدها، اللّتين تقاومان كثيراً قبل أن تُرمَيا أرضاً، وهنا ترفس إحداهم وَجه والدها المناضل، قبل جَرِّه وإخراجِه من الباب الرئيس، وسط صراخ أمّها وتوسّلاتها».

«لم أكن أحبّ أن أزورَ جدّتي، رحمَها الله، كثيراً، يكشفُ نيشان، فصورَتُها في المطبخ، وهي تُمسِك سكّيناً كبيراً لتقطيع اللحمة، أكلَ الدهر عليه وشرب، مُرفِقةً ذلك بتمتماتٍ لم أكن أفهمها… هذا المشهد تحديداً لم يكن يروق لي وأنا طفل»، مشيراً إلى «أنّني قرّرتُ يوماً أن أرويَ حشريّتي، فسألتُها عمّا تتمتِمه أثناءَ تقطيعِها اللحمة، فأجابت: ألله في بعض الأوقات يمدّنا بالقوّة». ويتابع: «لم أفهَم ما تعنيه جدّتي بهذه العبارة. وعندما استوضحتُ منها، روَت لي تفاصيلَ معاناتها عام 1915، وعندها فقط أدركتُ حجم الكارثة التي حلّت بأجدادنا».

ويروي نيشان تفاصيلَ ما عاشته جدّته قائلاً: «أخبرتني جدّتي أنّها كانت في الرابعة من عمرها في ذلك اليوم المشؤوم، عندما دخل الجيش العثمانيّ بلدتَهم مقتحِماً البيوت بيتاً بيتاً. فطلبَت منها والدتها أن تختبئ تحت السرير وأن تضع أصابعَها الأربعة في فمها لدى اقتحام العثمانيّين المنزل، وذلك منعاً للتلفّظ بأيّ حرف مهما حصل»، لافتاً إلى «أنّ هذا فِعلاً ما فعَلته عندما رأت مِن تحت السرير، الجزمات الأربع تَجرّ والدَها إلى خارج المنزل.

إلّا أنّ الرواية لم تنتهِ هنا، إذ أوضحَت جدّتي: وما لبثت أن خرجَت الجزمات الأربع من المنزل، لتعودَ بعد لحظات للقبض على والدتِها التي أجهشَت بالبكاء، فما كان من معتقليها إلّا رميها بدورها أرضاً، لتنقضَّ عليها سكّينٌ ضخمة وتَقطع رقبتَها أمام عينيّ جدّتي، التي نجحَت مرّةً جديدة بالمحافظة على هدوئها رغم هول الجريمة وفظاعتِها. وعندما سألتُها مصعوقاً عن قدرتِها الهائلة هذه على ضبط نفسِها، جدّدَت القول: «ألله في بعض الأوقات يمدّنا بالقوّة».

ويضيف: «عندها فهمتُ معنى هذه العبارة، وأدركتُ حجمَ هذه المأساة التي تركت في ذاكرة أجدادنا جروحاً وأوجاعاً وغصّة، ولا تزال اليوم تعيش حيّةً في كياننا»، مشَدّداً على «أنّنا لن نسأمَ ولن نستسلم قبل اعتراف الدولة التركية بالمجازر الأرمنية، واعتذارها عمّا تسبَّبَت به لأمَّتنا، لأنّ رفضَها الاعتذارَ والإقرار بما اقترفَته، يتسبّب بغرسِ سكّينِ العار في خاصرةِ الإنسانيّة أكثرَ فأكثر».

شهداء لبنان يفوق عددُهم شهداءَنا

وتسألُ الكاتبة كلوديا مرشليان: «مَن لم يضِق ذرعاً بالعثمانيّين في المنطقة والعالم؟»، وتلفتُ في حديثها لـ«الجمهورية» قائلةً: «جدّتي لبنانيّة من بيت ناكوزي، فيما جدّي هو الأرمني، ولطالما كانت تروي لنا قصَصاً لا تقلّ فظاعةً عن روايات جدّة نيشان، خصوصاً أنّ والدتَها توفّيت على يدِها نتيجة الجوع والمرض، فيما قُتِل أخوها في البحر، وغيرها من الوقائع المأسوية»، مشيرةً: «عندما بدأتُ مسيرتي في الكتابة، كتبتُ مسَلسل «نضال» الذي يَروي الجرائم والفظائع التي اقترَفها الجيش العثماني بحق اللبنانيين، وليس بحقّ الأرمن».

وإذ ترى مرشليان أنّ «اللبنانيّين يَحتفلون هذا العام بهذه المناسبة، أكثر من أيّ وقتٍ مضى»، تقول: «أشكر ربّي اليوم لأنّهم على ما يبدو، أقرّوا أخيراً بأنّ هذا المجرم هو فعلاً مجرم، وأتمنّى أن يتضامنوا مع أنفسهم وشهدائهم قبل التضامن معنا، وذلك إذا ما أدركوا أنّ عدد شهدائهم يفوق عدد شهدائنا بكثير، إذ لم يبقَ في ذلك الوقت، إلّا 30 في المئة من الشعب اللبناني على قيد الحياة، بسبب الجيش العثماني والجوع».

وتختم مرشليان: «أنا أحترم كلّ دوَل العالم، ولكنّني أحترم أكثر الدول التي تُجيد الاعتذار. وسنبقى طالما حَيِينا، نطالب بهذا الاعتذار، لا متاجرةً بشهدائنا ولا طلباً للأراضي والمال، بل حتى يجفّ دم شهدائنا فيرقدوا بسلام، وعندها فقط سنرتاح».

والدي كان survivor

أمّا الإعلامية بولا يعقوبيان فتنقل لـ«الجمهورية» شهادة حياة، ليس جدّتها أو جدّها، بل شهادة والدها الذي «كان survivor، على حدّ تعبيرها، بعدما نجا من المجازر بأعجوبة». وتقول: «ذكرى المجازر الأرمنية هي ذكرى آلام أبي، الذي لو كان لا يزال على قيد الحياة، لكان عمره اليوم مئة وأربع سنوات».

وتروي بولا مأساة أبيها الذي «ذُبِحت أمُّه أمام ناظرَيه، وقُتل والده وهو ابنُ أربع سنوات»، لافتةً إلى أنّه «عاش ليُخبرَ الوجع الذي ما برح يرافقه حتى مماته، وهو صورة الأُم برأس من دون جسد»، مؤكّدةً أنّه «لم يُرَبِّنا على الحقد والثأر والكراهية، بل على السَعيِ خلف العدالة التي هي حقّ لا يمكن السكوت عنه».

وتُتابع: «كان والدي يخبرني أيضاً كيف نُقِل وأختَه، على ظهر حمار، وصولاً إلى ميتم في حلب، وكم كانت الرحلة شاقّة، حتى إنّه شعر أنّها لن تنتهي أبداً. وفي حلب، يقول أبي، إنّ الحياة لم تكن سهلةً بل مختلفة تماماً عمّا ألِفَه في بلاده، خصوصاً بين ناسٍ لا يَعرف لغتَهم»، لافتةً إلى أنّ «الأرمن محظوظون في لبنان، نظراً إلى الكمّ مِن المحبّة والألفة والدعم التي وجدوها هنا».

وترى بولا أنّ «جيل الأرمن الجديد واعٍ لتاريخِه أكثرَ من القديم بفضل تطوّر وسائل الإعلام، وهو ما يجعل القضية الأرمنية تأخذ هذا الزخمَ الكبير اليوم محَلّياً وعالميّاً»، مؤكّدةً أنّ «الإبادة ليست بالخطأ العادي الذي يمكن أن يمحوَه الزمن، فلا بدّ أن ينقلبَ السّحر على الساحر يوماً، ويعيش الأتراكُ فظاعة ما ارتكبوه بحقّ الحرّية والإنسان».

وإذ تلفت إلى أنّ «الشريف حسين ملك العرب هو مَن حمى الأرمن المسيحيّين»، ترفض بولا مقولة أنّ «الإسلام هم مَن يقتلون المسيحيّين»، مشيرةً إلى أنّ «الأرمني لم يُقتَل لأنه مسيحيّ، بل بسبَب فكر وأيديولوجيا وإرهاب الدولة العثمانية»، مشيرةً إلى أنّ «تنظيم داعش يَقتل اليوم المسلمين أكثرَ من المسيحيين، وهذا الأسلوب يُعتمَد في السياسة، وبالتالي لا علاقة له بالتقاتل الديني والمذهبي».