للخارج في السياسة اللبنانية موقع دائم، يتأثر بادعاءات مبنيّة على أوهام أن لبنان وقضاياه محور اهتمام العالم وبالتبعية التي طبعت السياسة اللبنانية لفترة طويلة، لا سيما في زمن الحرب وبعدها.
ثمة من يربط السياسة اللبنانية وتفاصيلها الداخلية بمصالح الدول الكبرى وحروب المنطقة والمصالحة بين إيران والدول الكبرى وانتخابات الرئاسة الأميركية والتقارب الروسي – الأميركي في سوريا، وصولا إلى سياسة الفاتيكان الخارجية. أما فرنسا فلها حصة وازنة من مبادرات يتوهمها البعض وهي غير قائمة.
وغالبا ما يتبع هذه الافتراضات كلام جازم بمواعيد الحل والربط في المسائل العالقة، منها الانتخابات الرئاسية، فيأتي الربط المتخيّل بالأعياد الرسمية (الميلاد ورأس السنة أو رمضان)، أو بالفصول الأربعة (قبل الربيع أو بعده، مطلع الصيف أو الشتاء). وقد يكون لهذا الكلام قبول في أوساط الرأي العام. فالمؤامرة الآتية من الخارج، بحسب البعض، متواصلة، وهي دائما ناجحة. إنه الادعاء الأسهل للتهرّب من المسؤولية والتستّر بلعبة الكبار، وكأن لبنان يملك سلاحا نوويا، أو يتحكم بأسعار النفط وبحركة التجارة العالمية، لذا وجب التآمر عليه لتعطيل دوره المؤثر في المسائل الدولية الكبرى.
في الماضي، جاء الاهتمام الدولي بلبنان لأسباب موضوعية في سياقها التاريخي. جَذَب لبنان الاهتمام الدولي عندما كان ساحة للنزاعات الإقليمية: في زمن الحرب الباردة في الخمسينيات، وبعد حربَي 1967 و 1973، عندما أصبح جبهة عسكرية للنزاع العربي – الإسرائيلي وساحة للصدامات العربية – العربية لا سيما بين سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. تبدّلت الأوضاع في السنوات الأخيرة بعد الاجتياح الأميركي للعراق في 2003 وتردّي العلاقات السورية – الأميركية وتداعيات هذه التطورات على لبنان، الدولة والساحة.
أما اليوم فالأوضاع الإقليمية والدولية مختلفة لأسباب عديدة، منها «الربيع العربي» وتداعياته. فإذا كانت واشنطن لم تعد تحصر علاقاتها الإستراتيجية في المنطقة بالسعودية، بعد المصالحة مع إيران، فكَم بالحري موقع لبنان المتراجع أصلا في الاهتمامات الأميركية والدولية.
أطراف الخارج الفاعلة والأكثر اهتماما بالشأن اللبناني في المرحلة الحاضرة إقليمية، السعودية وإيران وسوريا تحديدا. فبالنسبة إلى الجيل القيادي الجديد في المملكة العربية السعودية وإلى الحرس القديم في مواقع السلطة، ليس للبنان دور إقليمي وازن، خلافا للوضع الذي كان قائما في الماضي، إن في عهد الملك فهد وعلاقته الوثيقة بالرئيس رفيق الحريري أو في عهد الملك عبدالله. أولويات الرياض اليوم تختلف عن أولوياتها في مراحل سابقة.
أما إيران، التي كان لها دور مباشر وفاعل في لبنان الثمانينيات، فإن دورها اليوم ممرُّه الإلزامي «حزب الله»، الحليف الموثوق والملمّ بأوضاع البلاد أكثر من أي طرف خارجي آخر. وقد تكون سوريا الأكثر تأثيرا في لبنان، إلا أن لديها ما يكفي من حروب وويلات. فالفارق كبير بين النفوذ السوري في لبنان ما قبل 2005 وتأثير دمشق واهتمامها بلبنان بعدما أصبحت سوريا ساحة لحروب إقليمية مدوّلة. هموم الدار تأتي قبل شؤون الجار وشجونه.
فرنسا ومعها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والفاتيكان، همهم الأول الحفاظ على الاستقرار في لبنان بالوسائل المتاحة والأقل كلفة. فالمجتمع الدولي يكترث حاليا بلبنان لأسباب ثلاثة: تطويق أزمة النزوح السوري وحصر ارتداداته بلبنان، الاستقرار على الحدود بين لبنان وإسرائيل، واستهداف «حزب الله» في سياسة أميركية متشددة بعد «اتفاق فيينا». وفي ما عدا ذلك لبنان متروك لأمره، يتلقى الدعم بالحدّ الأدنى للجيش والقوى الأمنية للتصدي للإرهاب.
الانتخابات الرئاسية لا تُشغل بال الخارج بقدر ما هي هاجس دائم لأطراف الداخل. فالرئيس العتيد، بمعزل عن شخصه، لن يؤثر في موازين القوى الإقليمية والدولية. تأثيره محصور بمعادلة السلطة في الداخل. لذلك تتلطّى أطراف الداخل بالخارج لدعم الموقف الداخلي وليس العكس. ففي حين أن الموقف السعودي غير داعم للعماد عون، إلا أن المواقف الداخلية أكثر تشددا وإصرارا على قطع طريق رئاسة الجمهورية أمام العماد عون. الرياض منهمكة بحرب اليمن وسوريا والعراق وايران وبالعلاقة المتوترة مع الولايات المتحدة، بينما أطراف الداخل همّها واحد: الإبقاء على معادلة السلطة لحماية نظام المحاصصة.
فلا عجب أن ينزعج كثيرون من المصالحة بين «التيار» و»القوات»، بعدما كان الرهان على استحالتها. وليس مستغربا أن يتم ترشيح النائب سليمان فرنجية باسم الواقعية السياسية التي يمكن أن تنطبق على العلاقة مع العماد عون، خصوصا عندما يكون داعم هذا الترشيح، الرئيس سعد الحريري، مستعدا لأن يخوض معركة سياسية مكلفة غير مضمونة النتائج.
الحوار الوطني برعاية الرئيس نبيه بري قد يكون أكثر تأثيرا وجدوى من الخارج بتلاوينه كافة. وهو البديل العملي والواقعي ﻠـ «طائف» لم تعد عناصره الداخلية والخارجية قائمة وﻠـ «دوحة» لم تعد متاحة.