منذ الانفجار الرهيب الذي أصاب حرم مرفأ بيروت مساء يوم الاربعاء في 4 آب 2020 ونتج عنه الضرر الفادح بالارواح والاجساد والممتلكات، تعددت، منذ الحين وحتى اليوم، الاقاويل والاجتهادات التي تم ترويجها دون ان تكون مستندة بالضرورة الى وقائع ثابتة بل كثير منها هو من نسج الخيال، ولست في وارد تعدادها وتفنيدها أو الإدلاء بتكهنات من عندي تحلَّ محلها.
وإذا كانت بعض الوقائع التي تم ترويجها ثابتة فإن ذلك لا ينفع اما لأن لا علاقة لها بجوهر المسألة أو لانها من قبيل رؤية بعض الاشجار في الغابة دون رؤية الغابة بأكملها. وأحياناً يكون الامر معكوساً مثل عدم رؤية الفيل في الغرفة.
وان ما أحاوله في هذه الدراسة، المبنية في الغالب على مستندات غير منشورة، هو إلقاء ما تيسّر من الضوء على الغابة والفيل أو الأفيال. وقد يكون المخفي أعظم وقد يفاجيء الجميع.
أولاً لمحة تاريخية ودور المرجعيات التي تحكم المرفأ
لا بدّ اولاً من معرفة خلفية الموضوع وأبدأ بتحديد ماهية المرجعيات الادارية التي تتحكم في ما يعرف بالعبارة الشائعة: مرفأ بيروت.
في البدء هناك مرجعيتان:
فإن المرفأ بكل معنى الكلمة هو المرسى أي حيث ترسو السفن فحسب، أي انه مساحة صالحة لرسو السفن داخل حوض من المياه متصل بالبحر. وهو يخضع للمرجعية الاولى وهي المديرية العامة للنقل البري والبحري في وزارة الاشغال العامة والنقل. وتتمثل فيه بعدد ضئيل من الموظفين تحت رئاسة رئيس المرفأ. وتحيط بالمرفأ، لجهة دخول السفن اليه ورسوها فيه فحسب، مساحة برية مصوّنة ومحروسة هي حرمه، وتقع عليها المخازن الجمركية والعمومية والخاصة وسائر المرافق المتعلقة بتفريغ ونقل الحاويات وسائر البضائع ، وهي تخضع لكيان يسمى: «إدارة واستثمار مرفأ بيروت»، وهي المرجعية الثانية.
ولكن البضاعة التي تدخل الحرم المذكور او تخرج منه تخضع ايضاً، وفوق كل ما تقدم، لمرجعية ثالثة هي المديرية العامة للجمارك في وزارة المالية. وهي وحدها التي تجيز ادخال البضائع الى حرم المرفأ واخراجها منه بعد معاينتها وتسديد الرسوم عنها.
ولا علاقة لرئيس المرفأ بالبضاعة بعد تفريغها من السفينة على الرصيف. ويخضع نقلها داخل حرم المرفأ الى «ادارة واستثمار مرفأ بيروت» تحت مراقبة الجمارك التي لها الكلمة الاخيرة في اخراجها بعد اتمام المعاملات الجمركية. وقد تتداخل المرجعيات الثلاثة كما حصل في القضية الحاضرة. لكن المخالفات الجمركية تخضع لصلاحية محكمة الدرجة الاولى في بيروت. وأخيراً فإن قضاء العجلة كثيراً ما يتدخل.
وان ما حصل بالتسلسل الزمني بين تاريخ 21/11/2013 واليوم هو:
– في 21/11/2013 وصلت السفينة التعيسة الحظ روسوس الى بيروت وعليها حمولة مقصدها موزامبيق دون بيان نوعها من اجل نقل معدات ثقيلة من بيروت الى العقبة، واتضح فيما بعد ان تلك الحمولة تتألف من مادة الامونيوم نيترات التي اتضح فيما بعد ايضاً أنها ليست مادة عسكرية او متفجرة بحد ذاتها بل يمكن استعمالها في التفجير لا في صناعة المتفجرات.
– في 23/11/2013 جرت محاولة لتحميل المعدات المطلوب نقلها الى العقبة عليها لكنها لم تنجح. فتخلى الربان فوراً عن تحميلها وطلب إعطاءه الاذن بالمغادرة.
– وفي ذات اليوم، اعطى رئيس المرفأ السيد محمد المولى الإذن بسفر السفينة بموجب رخصة السفر رقم 47318. فإن رئيس المرفأ هو المرجع الصالح لاعطاء الاذن بدخول السفن او خروجها من المرفأ.
– وفيما كان يجري إعداد روسوس للسفر فعلاً، حضرت في 25/11/2013 مجموعة من جهاز المراقبة على السفن الوطنية والاجنبية التابع للمديرية العامة للنقل البري والبحري وأجرت كشفاً عليها فوجدت فيها عيوباً، وأصدرت تدبيراً بلّغته الى القبطان بمنع سفرها حتى يتم تصليح تلك العيوب المانعة للإبحار. لكن السفينة كانت وصلت إلى بيروت قبل بضعة أيام ولو كانت عيوبها مانعة من الإبحار لغرقت قبل الوصول إلى بيروت!
– ويظهر انه تمّ إصلاح تلك العيوب بعد مدة وجيزة لكنه تمّ منع السفينة من الابحار لاسباب أخرى سأتناولها أدناه، وما لبث القبطان وطاقم السفينة ان هجروها على مراحل.
– ففي 19/12/2013 تقدم المحامي سمير بارودي بالوكالة عن شركة بنكر نــــــت ليمتـــــد بطلب لالقـــــاء الحجــــــز الاحتياطي على السفينة روســــــوس ضـــــد المحجوز عليهــــــم وهم «اصحاب ومجهزو ومستأجرو السفينة وشركة تيرو سينغ ليمتد»، فصدر في اليوم التالي قرار الحجز الاحتياطي رقم 1031/2013 عن قاض، وضع عليه توقيعاً دون إسم، تأميناً لمبلغ 132,000 دولار وتم ابلاغه فوراً الى رئيس المرفأ، وتلته ثلاثة قرارات حجز احتياطي اخرى.
– في 4/4/2014 وجه المدير العام للنقل البري والبحري السيد عبد الحفيظ القيسي (حالياً موقوف قيد التحقيق) كتابــــاً الى وزارة العــــدل عرض فيه ان السفينة روسوس وصـــلت الى مرفأ بيروت في 21/11/2013 حاملة شحنة من نيترات الامونيوم وهي مادة تصنف على انها خطرة وصدر في 20/12/2013 القرار رقم 1031/2013 بالحجز الاحتياطي عليها مما منعها من مغادرة المياه الاقليمية ما لـــم تقدم كفالة ضامنة بقيمة المبلغ المحجوز لأجله، كما جرى في 25/11/2013 منعها من السفر لعيوب فيها. وطلب القيسي اخذ العلم بما تقدم واتخاذ الاجراءات لتلافي غرق السفينة المحملة ببضائع خطرة والتعجيل في البت بقضيتها وبيعها بالمزاد العلني.
وأرفق القيسي بكتابه المذكور تقريراً صادراً عن الربان هيثم شعبان من جهاز الرقابــة على السفن في دائرة الملاحة البحرية مصلحة النقل البحري، المديرية العامة للنقـــل البري والبحري، وزارة الاشغــــال العامة والنقل، نتيجــــة للكشف على السفينة روســـوس في 2/4/2014، يبيـــــن ان نـــــوع الحمولـــــة هو امونيــــــوم نيترايت ذات كثافـــــة عاليــة high density ammonium nitrate وانتهى التقرير الى توصيات منها:
«البضاعة الموجودة داخل العنبرين (في السفينة) منذ تاريخ 27/9/2013 هي بضاعة خطرة وفق تصنيف المنظمة البحرية الدولية 5،1، وبالتالي قد يحدث تفاعل كيمائي ما، او قد تكون البضاعة غير صالحة بعد كل هذه المدة للاستخدام».
وإقترح القيام بما يلزم لمغادرة السفينة مرفأ بيروت والمياه الاقليمية اللبنانية كونها تشكل خطراً مستداماً.
– وفي 30/4/2014، ابرز محامي الدولة الاستاذ عمر طرباه من هيئة القضايا في وزارة العدل كتاب القيسي والتقرير المرفق به مع طلب امر على عريضة قدمه الى قاضي الامور المستعجلة في بيروت تسجل برقم 429/2014، ووضع يده عليه القاضي المنفرد السيد جاد معلوف، نوه فيه بأن السفينة روسوس محملة بمواد خطرة جداً ومعرضة للغرق، منتهياً الى طلب الترخيص للدولة اللبنانية بإنجاز اعمال تعويم السفينة المذكورة ونقل المواد المذكورة نظراً لخطورتها الى مكان آمن وتأمين حراستها وبيع السفينة وما عليها بعد انتشالها. أي ان ما طلبه طرباه اختلف عما عرضه القيسي وشعبان ولا سيّما لجهة الطلبات. فالسفينة لم تكن غارقة كي تحتاج الى تعويم.
– وفي 2/6/2014 عاد القيسي ووجه كتاباً الى وزارة العدل نوه فيه بأنه اخذ علماً بأن القضية اصبحت بين ايدي قاضي الامور المستعجلة لكن وجود الباخرة المذكورة بات يشكل خطراً كبيراً لوجود مواد خطرة على متنها مما قد يتسبب بإنفجار الباخرة الذي سيؤدي الى كارثة انسانية وبحرية داعياً وزارة العدل لاعطاء طلبه صفة العجلة لجهة بيع الباخرة بالمزاد العلني بأقصى سرعة ممكنة حتى يصار الى تفادي الكارثة التي باتت محتمة الحصول. فأبرز المحامي طربيه هذا الكتاب الى قاضي الامور المستعجلة ربطاً بمذكرته تاريخ 5/6/2014.
– وفي 27/6/2014 اصدر القاضي جاد معلوف قراراً بما يلي:
«(1) الترخيص للمستدعية (أي الدولة اللبنانية) بتعويم السفينة موضوع الاستدعاء… بعد نقل المواد الموجودة على متنها الى مكان مناسب لتخزينها تحت حراستها.
(2) رد طلب الترخيص ببيع السفينة لعدم الاختصاص.
(3) تكليف الكاتب زياد شعبان بالتنفيذ».
– لم يحاول شعبان وهو كاتب في قلم قاضي الأمور المستعجلة في قصر العدل في بيروت، تنفيذ القرار حتى يوم الثلاثاء في 21/10/2014 فوجد السفينة راسية على الرصيف رقم 9 وصرح له رئيس المرفأ السيد محمد المولى ان حمولتها تتألف من مواد خطرة لم يتم الكشف عليها بالنظر للوقت الطويل ويجب اخلاء محيطها وتهوئة العنبر وبعدها يتم الكشف على البضاعة داخله قبل تفريغها والعمل على نقلها الى مستودع مخصص لتخزين المواد الخطرة، على نحو ما جاء في المحضر الذي نظمه شعبان.
– وفي 23/10/2014 تم افراغ حمولة السفينة روسوس ونقلها الى العنبر الجمركي رقم 12 الذي حددته إدارة واستثمار مرفأ بيروت لكونه مخصصاً لايداع المواد الخطرة والواقع تحت سلطتها وذلك بموجب محضر موقع عليه من ممثل للجمارك وممثل لإدارة واستثمار مرفأ بيروت وقسيمة إدخال تحمل اسمي المذكورين وتوقيعهما وهما غسان غساني وعادل نصور.
– وفي 25/10/2014 وصل الى بيروت مندوب للشركة الموزمبيقيـــة التي كانت البضاعة مرســــلة اليها واجرى اتصالات اما لمحاولة تحرير البضاعة ونقلها الى وجهتها الاصلية أو للحصول على ما يثبت حالتها القانونية والواقعية في بيروت ابراءً لذمة الشركة تجاه البائع. وكان الوضع القانوني للحمولة غير معروف. فإنه قد يكون تمّ شحنها بواحدة من طريقتين، إما بإعتماد مستندي bill of lading بقيمة البضائع وأجرة الشحن فتحه المستورد ويتحرك بموجب دائرة مقفلة ويتم صرف قيمته مقابل بوليصة الشحن التي ترسل إليه عن طريق المصرف وتعطيه الحق في الإستلام عند وصول البضاعة إلى مقصدها بموجب إذن تسليم يحصل عليه وعلى المستندات المرفقة به بعد تسديد الرسوم الجمركية، وإما بطريقة «»نقداً مقابل المستندات cash against documents» أي أن البوليصة ومستنداتها ترسل إلى مصرف في بلد المستورد وتسلم إليه عند الدفع. وفي كل الأحوال فان ملكية البضاعة تعود لحامل بوليصة الشحن ومرفقاتها ومنها شهادة المنشأ والفاتورة المصدقتين. ولا بدّ ان مندوب الشركة تعرض في بيروت لنوع من الإبتزاز الذي لم يتجاوب معه فسافر خائباً. وكما يتبين من السرد أعلاه فإن البضاعة أدخلت إلى لبنان بأمر قاضي العجلة خارج الدائرة المذكورة فصار من الممكن التصرف بها دون المستندات أو إذن التسليم بطريقة البيع بالمزاد العلني وربما السرقة المتمادية من المستودع.
– عاد الكاتب شعبان الى المرفأ يوم الخميس في 13/11/2014 وتبين له انه تم دون حضوره افراغ حمولة السفينة روسوس وايداعها العنبر الجمركي رقم 12. فتثبت من افراغ الحمولة التي كانت على متن السفينة. ولم يتمكن من تعداد أكياس نايترات الأمونيوم ويفترض ان كل كيس كان يحمل مقدار طن واحد من تلك المادة لكنه تمّ تكديس ما دخل العنبر منها عشوائياً مما يستحيل معه العدّ من ثقب في الحائط. وصرّح المولى لشعبان ان العنبر هو تحت مسؤولية الجمارك وإدارة واستثمار مرفأ بيروت وليست له أية سلطة على هذين المرجعين ولا يمكنه ممارسة الرقابة على البضائع داخل العنبر رقم 12 ولم يقبل ابداً تعيينه من جانب الكاتب شعبان حارساً قضائياً عليها. علماً بأن القاضي المعلوف، وعفواً دون طلب، عيّن الدولة اللبنانية حارساً، وعلماً بأن العنابر لا تفتح ابوابها او يتم ادخال او اخراج البضاعة اليها الا في حضور ممثل للجمارك وآخر لادارة واستثمار المرفأ في آن معاً وكل منهما يحمل مفتاحاً ولا تفتح أبواب العنبر الا بإستعمال المفتاحين، وعلماً ان ممثلين للجمارك والإدارة مختصان بالتعداد يقومان بعدّ طرود البضائع عند إدخالها إلى العنبر ويدونان النتيجة في محضر موقع منهما، وعلماً بأن الدولة لم تطلب تعيينها او تعيين سواها حارساً قضائياً. وعلماً بأن الحارس القضائي لا يكون الا شخصاً طبيعياً، وعلماً بأن شروط الحراسة القضائية غير متوافرة قانوناً في القضية.
– وفي كل من 5/12/2014 و5/6/2015 و20/5/2016 و13/10/2016 و28/12/2017 خاطب مدير الجمارك العام السيد شفيق مرعي (وهو موقوف) وبعده بدري ضاهر (وهو موقوف) قاضي الامور المستعجلة طالباً مطالبة الوكالة البحرية للسفينة روسوس بإعادة تصدير كمية امونيوم نيترايت التي افرغت منها والمودعة في العنبر رقم 12 او الموافقة على بيعها. فرد معلوف كل تلك الطلبات او تجاهلها.
– في 27/11/2014 وجهت ادارة واستثمـــــار مرفــــأ بيروت كتابــــاً للمديريــــة العامة للنقـــل البري والبحري بإعلامهـا انه تم تفريغ الحمولة المذكورة وايداعها العنبر الجمركي رقم 12. لكنه لم يجرِ تعداد البضاعة عند ادخالها المستودع كما يوجب القانون ويتم دائمــاً.
– وفي نيسان من العام 2019 أُحدث في حرم مرفأ بيروت، بالاضافة الى مركز للامن العام ومكتب لامن المرفأ في مديرية المخابرات في الجيش، مركز لأمن الدولة. وكل ذلك بالإضافة إلى الضابطة الجمركية. فأصبح المرفأ في حماية أربعة أجهزة أمنية مسلحة. وتبين لرئيس مركز أمن الدولة الرائد جوزف النداف ان ابواب العنبر الجمركي رقم 12 مخلّعة وفي حائطه اكثر من فجوة يمكن الدخول من خلالها اليه والخروج منه فرفع تقريراً بذلك للمدير العام لامن الدولة الذي أمره بالتنسيق مع مكتب مديرية المخابرات بشخص رئيسه العميد انطون سلوم. ثم تلقى الرائد النداف تعليمات من المدير العام لامن الدولة بمراجعة مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالامر للعمل بتعليماته، وهو القاضي السابق بيتر جرمانوس، الذي رفض ان يتدخل لعلة عدم الاختصاص، وعلى اثر ذلك قرر المدير العام لامن الدولة مراجعة النائب العام لدى محكمة التمييز السيد غسان عويدات الذي أمره بتوجيه كتاب الى إدارة واستثمار مرفأ بيروت من اجل تأمين الحراسة على العنبر الجمركي رقم 12 وتعيين رئيس له وصيانة الابواب المخلّعة وسدّ الفجوات، فوجه رئيس اللجنة المؤقتة السيد حسن قريطم كتاباً في 6/7/2020 الى السيد ميشال نحول مدير المشاريع في إدارة واستثمار مرفأ بيروت من اجل استدراج العروض لصيانة العنبر رقم 12 وابوابه وسد الفجوات في حائطه تنفيذاً لتعليمات النائب العام لدى محكمة التمييز، فتمّ تلزيم احدى الشركات بهذا الامر وهذه الشركة هي Qualy Consult وفي قول آخر شركة شبلي للتعهدات، فتمت المباشرة بالاعمال يوم 29/7/2020. وفي الساعة الثانية بعد ظهر يوم 4/8/2020 تبلغت إدارة واستثمار مرفأ بيروت بشخص ميشال نحول مدير المشاريع فيها بأن أعمال الصيانة في العنبر رقم 12 قد أنجزت واصبح بالامكان تسليمها للادارة.