كانت مشهدية ظهر فيها الشهيد الحي مروان حمادة ليدلي بشهادته أمام المحكمة الدولية حول اغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ومن سقط من المواطنين في جريمة العصر. مشهدية الرجل الذي واجه المحكمة على الشاشة بحضور مهيب، وبلغة مجردة وبسردية عارية منزهة عن الخطب والبلاغة. لغة قالت الحقائق بخلفياتها وحذافيرها وكواليسها في مراحلها المتعددة بسيناريواتها ومخرجيها وممثليها وقوّاليها وصحافييها.
فاغتيال الحريري لم يكن واقعة، مفصولة عن تاريخ الوصاية الأسود، وحلفائها في لبنان، ولم يكن لحظة منزوعة من زمنها المتطاول. لحظة عمرها أربعون عاماً من طغيان النظام السوري في لبنان. وشريط طويل من جلجلة طويلة حمل اللبنانيون، والحريري، صلبانها، ومشوا تحت أسياط جلاديهم.
انها اللحظة الحُبلى مكتنزة ما تكدس في الذاكرات الموشومة بالذل. فمروان حمادة جسّد هذه اللحظة، وهو الذي خرج بأعجوبة من بين فكي الموت، وعرف البرزخ الذي يصل الحياة بالعدم. وها هو بكل حيواته يواجه المحكمة ليدلي بشهادة العصر. وكنّا كلما استمعنا إلى حمادة تنقشع وراء كلامه شرائط مستعادة وصّور ومشاهد ووقائع حية عشناها وخبرناها وشهدنا كثيرها على امتداد الوصاية البعثية على لبنان. كأن كل واقعة كان يسردها حمادة وراءها صورة ومشهدية وشريط مكتنز بالدم والجثث والشهداء والموتى والسجون والاغتيالات والمذابح. شريط معبأ بأربعين عاماً من صور الخراب والدمار على امتداد الوصاية السوداء. انها الكلمة التي تصير صورة بلا حدود.
فكأن كل تفصيل أورده حمادة، كل كلمة، (حتى الصمت) وكل عبارة وكل استرجاعَة، تفتح لذاكرتنا. هنا صورة ومخيلاتنا وحواسنا فصولاً من جحيم الوصاية. تتراءى أمامنا، كخلفية لشهادته، صورٌ هي من عنفها أعنف من الخيال. صور الشهيد رفيق الحريري في لحظاته الأخيرة، خارجاً من المقهى مودعاً الأصحاب، ثم الدوّي الكبير، ثم الملحمة المصورة، والتفجير الهائل بكل مساحاته وخرابه وأجوائه: أف! استشهد الرئيس الحريري! هكذا بين لحظتين: لحظة حياة عامرة الفقدان…. ثم الاعدام المدّوي: القتل البربرية: والخسارة الكبرى صورة بانورامية. مشهدية تسكن الحواس وتقوى على الذاكرة. تسكن اللغة وتستوطن الصمت. قتلوه وقتلوه. هنا صورة، تستعيدها من «فلاش باك» حمادة! ثم الصراخ.. ثم الدمع.. ثم الفاجعة التراجيدية…. تأخذك إلى الوطن كله. إلى جلجلة الحريري مع نظام الأسد والجلجلة صورة أيضاً. لكن بأبعاد عديدة: الطاغية بجنونه وأمراضه وعنف وجوهه ويديه الموتورتين والكراهية المجلجلة بصوته «الآمر» الناهي، الخشبي: وأمامه الحريري. هنا الجلاد وأمامه الفريسة في لعبة القتل والسادية والعدوانية والكراهية والتعطش إلى الدم. ويمكن من خلال متابعة شهادة حمادة للوقائع ان تتصور طول الجلجلة التي مشاها الحريري، الفريسة «المتمردة» مثخناً بجروحه الروحية والنفسية آملاً بعالم أفضل لهذه البلاد وللناس. كأنها طقوس الذبيحة منذ بداية الوصاية السورية وحتى لحظة القتل. أف! ومن أين جاء هذا الشعب بكل هذا الصبر، لتسأل، من أين جاء الشهيد الحريري بكل هذا الصبر، بكل هذا العناد، بكل هذا الشغف بناسه وأرضه، بكل هذا «التمرد» الذي نصفه في القلب ونصفه في وجه الطاغية، من أين أتته هذه القوة الجبارة ليواجه أحياناً بالضعف (والضعف قوة أحياناً في الانتظارات الكبرى) وأحياناً بالسياسة وأخرى بكسب الوقت. انه منطق الانتصارات الكبرى، وهي كانت خبيئة لكن ساطعة في سلوك الحريري، وأفكاره وأحلامه بالسيادة والاستقلال والحرية. قُصفت هذه الانتظارات في تلك اللحظة التي اكتملت فيها فصول الجريمة. فقد «اكتشف» القتلة (نيات الحريري) أي انتظاراته. عرفوا انه بات «الخطر». الخطر بحضوره الراجح، الشعبي المتنامي، وأفقه الدولي. ومشاريعه وانماءاته. وكلها مقدمات. ولكل خروج على الطاغية مقدمات. وهنا بالذات كان لهم أن يبعثوا برسالة إلى الحريري، بمحاولة اغتيال مروان حمادة. كانت عملية مجازها الحريري (وكل من يرفض طغيان الوصاية. نصف الجريمة التي نفذت بحمادة، أدركت الحريري. لكي لا أقول كلها. إما القتل ، او الخضوع. إما الموت أو الانسياق لاستبدادنا. ومَنْ لا تتراءى أمامه صور العملاء والصحافيين الذين افلتهم النظام على الحريري: التشويه، التسفيه، التواطؤ، الاختلاف، التهديد؟ لكن الصورة «الأبهى» في هذه الجداريات التاريخية من المشهدية هي صورة اميل لحود، على نهاية ولايتهم الأولى. يطلع من ذاكرتك مبتسماً «برونزياً» يرفل بمجد قيود الوصاية. فهو ابنها البار تتصوره بوجه متباسط وخلفها وجوه مستعارة! فلنجدد له! فلنعينه وعليكم ان توافقوا! صور رستم غزالة وغازي كنعان، ومحمد خلوف، أف، كلها تتصادم امامك في اجتماع الأسد والحريري… وبوجودهم! صور كأنها من ارشيف النازيين، وهتلر وهملر والصلبان المعكوفة والكلام الفظيع: والشهيد الحريري بينهم. لم يكن اجتماعاً. بل استدعاء لتبليغ «الفتوى» أو «الفرمان» تنتخب رمز «المقاومة» و»الممانعة» اميل لحود… أو سأدمر لبنان على رأسك ورأس وليد جنبلاط! ما أصغر كلمة لبنان على فكيه! وما أكبرها على رأسه!
تتذكر هتلر بيديه، وبحركاته الهستيرية تتذكر ستالين … هولاكو. انها الصورة التذكارية الأخيرة التي رسمها مروان حمادة في شهادته. الاجتماع الأخير بين الجلاد والفريسة. يا للرعب! وهنا ترجع بك الذاكرة من خلال قسمات حمادة ففرائس أسقطها هذا النظام؟ كمال جنبلاط، المفتي خالد، سليم اللوزي، رينيه معوض، وقبلهما حسين مروة ومهدي عامل وسهيل طويلة… أف! انها العائلة المقدسة تحلف بالقتل، وتستأنس بالتذكير به في كل مناسبة. أو لم تتوجد الا بالقتل او لم تستمر الا بالقتل؟ وها هي قصة القتل ترتفع شعاراً بسلطة بشار الأسد يهدد الحريري (ووليد جنبلاط)، الرئيس الشهيد الصامت. والهيستريا الاستبدادية في أوجها. صورة الحريري: خرج من اللا «اجتماع» أي من جلسة الترهيب والتبليغ ممتقعاً محتقناً، كاظماً غضبه. مسترسلاً في أفكاره: فهو يعرف هذا النظام جيداً. ويعرف انه سبق وهدده عملاؤه في لبنان، (حزب الله من الأبطال المرموقين في هذه المشهدية ذوي الدور الأمامي والخلفي).. لم يكن امتقاع وجهه، وتوتره، خوفاً على نفسه. فهو كابد وعانى سابقاً مع هذا الشعب. لا! امتقع وجهه أكثر لأن صورة اميل لحود مجدداً ظهرت ملأت الشاشة وبرزت بلقطة مكبرة وكأنها الاحتقار بعينه. احتقار الشعب بعينه. تجديد الارهاب بعينه. اطالة الجلجلة بعينها. وهنا بالذات، وخلف صوت حمادة الهادئ الرصين. المهيب. ظهرت صورة لقاء جنبلاط والحريري: الضحيتين المحتملتين. المقبلتين «من سيقتلون منا أولاً انا أو انت؟ قال أحدهما للآخر«. وهنا بالذات تذكرت انا المشاهد صورة اجتماع كمال جنبلاط وريمون اده وهما يتساءلان: «من سيقتلون أولاً يا عميد أنا أو أنت»! انها الصورة التذكارية الدموية الدائمة في مخوخ حافظ وبشار الأسد! بل كأنها الصورة المثالية المعلقة دائماً على جدران صالونات الوصاية. لكن ما هذا؟ اصطدم رأس الحريري، كما اخبرنا مروان حمادة بزجاج سيارته بعد خروجه من اجتماع الترهيب التبليغ: نزيف من أنفه، انه الغضب، نزف. انه تاريخ طويل من النزف نفر. انه الصبر الذي يضيق بنفسه، فينزف دماً، أو صمتاً، أو تمرداً، انه الذّل الذي يزحزح مكامنه فينفجر. لكنه ايضاً النزيف الذي سال من جسد كمال جنبلاط، ومن اشلاء رينيه معوض ومن عروق اللبنانيين في السجون السورية. فالدم واحد والطاغية واحد في كل مكان، بل، وللحظة خاطفة كان الحريري وهو يعالج نزف انفه، يتذكر موته؟ موته المقبل. انها الإشارة، أف!
وعندما امعنت النظر في وجه مروان حمادة وهو يدلي بشهادته على الشاشة، فكأنما احسست انه ايضاً، وفي لحظة تفجيره تذكر موته، خروجه من السيارة المتفجرة… بخروج الحريري من اجتماع التبليغ.
حمادة تحسس دمه كذلك (وكذلك الشهيد الحي الياس المر) لكن بعد النجاة.. الحريري تحسس دمه وكأنه علامة إلى الشهادة!
انها الصورة المندمجة المونتاج التي تضم كل صور الشهداء بعد الحريري. صورة متناغمة، لطاغية مستنسخ. ليشزوفرانيا مستنسخة لتاريخ مستنسخ!
حمادة ما زال في حلقاته يستحضر الوقائع، بتلك الدقة، والموضوعية بلا «انفعال» او «تأثر» او عاطفة. مستبطنة خلف جروحه الملتئمة، وخلف شهادته الثابتة. فأي قدرة هذه على استبطان العواطف الكبرى في مثل هذه التذكارات الفظيعة، التي لا تقف عند الراوية ولا واقعة الشهادة فحسب بل إلى شريط طويل من صور الشهداء الذين نحروا بعد الحريري: سمير قصير! (كيف لا اتذكرك يا صديقي ويا تلميذي ويا رفيقي!) جورج حاوي، جبران تويني، بيار الجميل، انطوان غانم، وليد عيدو، سامر حنا… ووسام الحسن. مشهد المواكب تتراءى: دمعة واحدة لمئات آلاف المنتفضين، والمحزونين! الجنازات، الأضرحة، الصور… أف ! كلها تخرج واحدة واحدة من وراء كلمات حمادة. الناس افجعتهم المصيبة: وأفجعهم أكثر: اعادة انتخاب اميل لحود. وانتخاب هذا الأخير واستمراره «المُهين« كان بين موت وموت. بين مجزرة وأخرى. بين ذل وأذل. بين دم ودم. اف! وفي عهده دفع الحريري حياته ثمنا كل هذا الدم الغالي اهرق، «لانتخاب» رئيس الكريهة.
الصورة: موكب الحريري الجنائزي. الصورة المقابلة: اميل لحود في القصر. الحكم مقابل القتل. الحرية مقابل الوصاية. اف! هذا كثير. هذه الصورة اقسى من طن المتفجرات التي أودت بالحريري. أقسى من الموت. لأنها تمثل تحكم القتلة بالحياة. استمرار الجلادين باطالة الجلجلة. هذا كثير، وكأن هذه الصورة المثلثة: اميل لحود، بشار الأسد، ضريح الحريري، جرفت كل المخاوف، كسرت كل المحرمات، احيت التمرد، وارتقت بالغضب إلى مستوى الثورة. ولما يجف دم الحريري بعد، صورة خزي تتصدر الشاشات: تظاهرة حزب الله شاكراً القتلة على قتلهم، وعلى احتلالهم لأنه صنو هذا القتل والاحتلال. صورة التقزز والاشمئزاز.. لكن صورة الاستنهاض. إلى الشارع أيها الأحرار: إلى ساحات الحرية. إلى كل لبنان، قم، ارفع رأسك فلتزدد الارزة خضرة، ويزدد صنين بياضاً… وبيروت وطرابلس وصيدا وعكار والجبلان والسهل وبعلبك، لا تستزيد حرياتها المقبلة. انه اليوم الذي ساوى يوم اغتيال الحريري.
وعندما يكمل مروان كلامه تطلع المشهديات الكبرى، الاعلام اللبنانية استعادت لبنانيتها. الشوارع استعادت حرياتها. المدن كراماتها. الاطفال طفولاتهم. الشيوخ شبابهم. المقعدون أقدامهم، العميان ابصارهم. انها لحظة الملحمة الكبرى، تطل من وراء شهادة الشهيد الحي. شاشاتها الكبرى: كيف تصير البلاد غابة من الاجساد العالية، كيف تملأ الفضاءات أصوات طالعة من حناجر الأرض والانهر والينابيع!
انها 14 آذار في ملحمتها الكبرى: فلتسقط حكومة الوصاية وسقطت حكومة الوصاية. انتفاضة الاستقلال (ما اروع ضريح الحريري عندما تفوح وروده استقلالاً ) فلنطرد الوصاية، فلنخرج الاحتلال البعثي. وانسحبت جيوش الوصاية. وصار الهواء انقى. والشمس اسطع. والمطر اخصب. والأرصفة اوسع والمدن ارحب. فليسقط الوجود البوليسي . فليسقط اميل لحود. هبوا إلى القصر. صرخها وليد جنبلاط . اسقطوا هذا الرئيس… والصورة : صار رئيساً رهين المحابس. سطوة الانتفاضة قيود العمالة، والالتصاق بجدران القصر! فليبق قصره أكثر فراغاً منه.
من تلك الشاشة الصغيرة التي تناصَفَها حمادة والمحكمة ، يطل تاريخ طويل وصراخ طويل: نريد الحقيقة! في وجه العملاء الذين راحوا يضللون، ويكذبون ويهددون ويقتلون الحقيقة: محاكمة القتلة: محكمة دولية واتت المحكمة الدولية. نريد العدالة. والعدالة تأتي بعد الحقيقة. وها هي العدالة في المحكمة الدولية. وها هي في فصولها وتحت رجم المتواطئين والقتلة، تستمر. وها هي حقائق الادانة تتوالى: تساقطت بروح المتهمين واسوارهم.
طلعت اسماء المتهمين: من حزب الله ثم سُحب اسم بشار الأسد. والمؤامرة ووقائعها وها هي كلها امامنا: لحظة تاريخية مشهدية تضيء ما عتّمه المضللون وها هو بشار الأسد (وغداً الحزب كجسم ميت تابع للوصايتين السورية والايرانية) المتهمون بالاسماء والصورة. تواروا. المتهمون الكبار الآمرون. اخفوهم، في سراديبهم ومتاهاتهم (وقد يصفّونهم ذات يوم ليستروا الأعظم) وحوّلوهم ايقونات مزيفة وقديسين سوداً.
هذه الصور والمشهديات والشرائط الطويلة لجلجلة الحريري والشعب اللبناني توالت امامي، كلها، من لحظة الدم إلى لحظة الانتفاضة. أو ليست «الانتفاضة الاستقلالية كانت من «انتصارات» الحريري، الذي دفع حياته ثمناً لها!
لكن الدم كان اقوى!
لكن الصورة كانت ابلغ
لكن الصرخة اعلى
لكن الناس اعظم.
الشهيد الحي فجّر كل تلك التواريخ المظلمة
فشكراً مروان حمادة!
بول شاوول