IMLebanon

وقائع تروي حكايات سياسية وأمنية ومناخات علمية

قصة جمهورية ولدت فجأة في البلاد

وواقع حكومة تبحث عن هياكل غامضة

خطف خطاب القسم الذي ألقاه رئيس الجمهورية الجديد العماد ميشال عون الأنظار والأفكار، لما انطوى عليه من معانٍ ورؤية ترسم ملامح الجمهورية العتيدة، وتحدّد آفاق المستقبل السياسي للبلاد للمرحلة المقبلة، بعد حقبة طويلة من الفراغ والجمود على مدى عامين وبضعة أشهر.

والرئيس الجديد ليس مجرد مرشح واجهته بضع أوراق بيضاء وضعها المعارضون لانتخابه في صندوقة الاقتراع، بل هو قائد سياسي ندر ان ظهر مثيل له منذ أكثر من نصف قرن، وناضل طويلا بين المواجهة الشعبية، والنفي الى مارسيليا، ومن ثم الى لا هوت ميزون في ضاحية باريس، حتى نضجت ظروف العودة الى لبنان، والانخراط في الحياة السياسية والنيابية.

وهذه الجمهورية هي جمهورية التجديد والتغيير وتلاقت مع وصول الرئيس سعد الحريري الى الحكم، بأكثرية نيابية ساحقة ضمّت ١١٢ نائبا في الاستشارات النيابية، وليس في التقديرات الشخصية.

والجمهورية التي جمعت بين نضوج الشباب الذي يجسّده العماد عون، وذهنية التجديد التي يقودها الرئيس سعد الحريري هل تحقق طموحات اللبنانيين الى وطن متحرر من المناكفات والصراعات، في بلاد غرقت منذ سنوات في بحار الفساد، وفي أزمة غير معهودة من النفايات والأقذار والخراب.

طبعا، ان الشعب اللبناني الذي نزل الى الشوارع ورقص فرحا لتسلم السلطة الى جنرال التغيير، وغطى الشوارع من الشمال الى جبل لبنان، ومن العاصمة بيروت الى عاصمة الجنوب، ومن رحاب البقاع الى سهل عكار، هذا الشعب أراد، ان تنتقل البلاد من فتنة طائفية بين الطوائف الى وحدة الطوائف في جمهورية التغيير والاعتدال، وهو الحلم الذي راود ويراود اللبنانيين، على اختلاف آرائهم والانتماءات الى وطن جديد، خليق بشعب يطمح الى الحياة في دولة متطورة وحديثة، لا في دويلة الفساد والتخلّف.

والجمهورية الوليدة في رحاب الآمال العصرية بدولة عصرية، تنتصب الآن كمارد أفاق من هجعة الأزمات، ليصبو بمعظم أطيافه، الى وطن جديد في آماله والتطلعات، وفي طموحاته ورؤياه.

ثمة أسئلة كثيرة تقفز الى الأذهان: كيف ستكون جمهورية التغيير والاعتدال. وكيف سيعالج الرئيسان ميشال عون وسعد الحريري شروط القادة السياسيين، للمشاركة في جمهورية ليست جمهوريتهم، وفي حكومة ليست حكومتهم، بل يرونها على قياس كل منهم.

والجواب، هو ان الجمهورية هي جمهورية الدستور والقانون والنظام. وهذه نقاط أساسية في ذهنية ثلاثة رجال يقودون البلاد، ولكل منهم عقليته وأفكاره ونظرته الى المستقبل، وهم الرئيس عون والرئيس نبيه بري والرئيس سعد الحريري، وهم، إن أمعنوا في الاختلاف، فانهم يلتقون عند رغبة جامحة في بناء دولة لا في العيش في دويلة.

ومن المصادفات ان الرئيس ميشال عون، كان يجلس في مجلس النواب، والى جانبه النائب ألان عون، وفي المقاعد الموازية كان يجلس النائب ميشال المر، وقد شاهد الناس من على الشاشة الصغيرة زعيم المتن الشمالي، يحمل ورقة ويعرضها على الجنرال ثم يضعها في صندوقة الاقتراع. وهذه الحادثة ظهرت في العام ١٩٧٠، عندما كان الوزير يومئذ سليمان فرنجيه، يجلس في مقاعد الوزراء، والى جانبه النائب الراحل فؤاد غصن، فما كان من هذا الأخير، المعروف بميوله الشهابية، ان يبرز ورقة الاقتراع، وعليها اسم الزعيم الزغرتاوي، ثم يضعها في الصندوقة، وهذه الحادثة، جعلت الرئيس فرنجيه يتعهّد تأييد نائب الكورة في الانتخابات النيابية التالية، ويطلب من الوزير الياس سابا ان ينسحب من السباق الانتخابي لتمثيل منطقته في الندوة النيابية.

والوزيرالسابق والنائب الحالي، هو الآن خصم لبعض النواب في كتلة التغيير التي رأسها الجنرال طوال الحقبة السابقة…

أما الآن فان السباق على المقاعد الانتخابية والوزارية على أشدّه. فثمة نواب يريدون وزارات سيادية، وآخرون يطمحون الى وزارات مدهنة كما في تعابير الأخوين رحباني.

والظاهر حتى الآن، انه في أثناء الاستشارات النيابية في مجلس النواب، عادت الأفكار المطروحة الى الحكومات الثلاثينية تراود الوسط السياسي لارضاء طموحات الكتل النيابية، إلاّ أن هذه الأفكار لم تتّضح بعد، ما اذا كانت تروق للرئيسين ميشال عون وسعد الحريري.

وللمرة الأولى، في تاريخ الحركة السياسية اللبنانية، تعود الحكومات المؤلفة من ٣٠ وزيرا الى الظهور، بعد ضمورها في عصر حكومة الرئيس تمام سلام الأخيرة.

كان الرئيس العماد ميشال عون يجلس في مكتبه في رئاسة الجمهورية، عندما دخل عليه المستشار الاعلامي لرئاسة الجمهورية رفيق شلالا، ليقول له ان شلالا من أصدقائه يطلب مواعيد لزيارته بغية تهنئته بوصوله الى رئاسة الجمهورية، وهو حدّد يوما كاملا للشعب ليستقبله لهذه الغاية، فرد العماد عون بأنه سيخصص يوما كاملا قريبا لاستقبال المهنئين.

أي حكومة يتوقع الرئيس عون ورئيس الوزراء سعد الحريري، ان يعملا معها في الحقبة المقبلة.

لا أحد يمكنه أن يتكهن بجواب صارم على هذا السؤال، لكن المعلومات تشير الى أن الرجلين، يريدان التغيير لا تكرار الماضي السحيق أو القريب، والاثنان لا يريدان العودة الى أيام الوصاية السورية ولا الى الحكومات العشرينية، بل يطمحان الى حكومات منتجة، تعطي الناس دولة، ويعيش معظم السكان في كنفها، ولا يطمحان الى حكومات تقليدية، عرفوها، وملّوا البقاء في كنفها.

وأبرز ملامح هكذا حكومة ان تكون وزارة مصغرة، تكون أقرب الى التقنية السياسية ولا تكون حكومة تكنوقراط، حكومة جديدة لا تكون حكومة شباب كالتي لجأ اليها الرئيسان سليمان فرنجيه وصائب سلام في العام ١٩٧٠، ولجأت الى مغامرات بشعة من أبرزها تقسيم بعض الهيئات النقابية.

ولا يزعج الرئيس عون، ولا الرئيس سعد الحريري تمثيل نواب ووجوه سياسية وغير سياسية في الحكومة العتيدة التي سيكون من أبرز مهماتها وضع قانون جديد للانتخابات النيابية يحاكي قانون فؤاد بطرس ويشابه طموحات الرئيس الراحل رفيق الحريري، ويقتص من الذين خرجوا على ارادة زعيم المستقبل ووضعوا أوراق بيضاء تفاديا لانتخاب العماد عون، ومجافية لتمنيات سعد الحريري، من دون ان يشعر أحد، ان ثمة انتقاما سياسيا، ومعاداته للفكر الديمقراطي.

ومن أبرز ما هو متداول الآن، لدخول الحكومة الآتية: النواب غازي اليوسف، وباسم الشاب وابراهيم كنعان وسامي الجميّل والمهندس عبدالله الزاخم وسمير الجسر وستريدا طوق وايلي الفرزلي وتيمور جنبلاط ومحمد الحجار وآغوب بقرادونيان وعلي فياض وطوني أبو خاطر وسواهم ممن تقترحهم الكتل النيابية ولا يكونون ممن لا يوافق عليهم رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة.

ولعل الأهم في موضوع التأليف والتشكيل، هو ما يوافق عليه الرؤساء عون وبري والحريري، وايجاد صيغة تلائم سلامة العيش المشترك، وتوفق بين السيادة اللبنانية وحلّ مشكلة التنوّع السياسي والموقف من السلاح العام في البلاد، وشرعية وجود المقاومة والمشاركة في الحرب الدائرة في سوريا منذ خمسة أعوام.

والحقيقة ان الرئيس سعد الحريري سارع الى الاعلان بعزمه على تشكيل حكومة وفاق وطني تتخطى الانقسام السياسي، وتصبو الى اجماع لبناني على مبادئ لا يعارضها السياسيون، ولا تكون مغايرة لخطاب القسم للرئيس عون.

ويشدّد سعد الحريري، بعد جولاته على رؤساء الحكومة السابقين، ولقاءاته مع بعض السياسيين، على انجاز قانون انتخابي يؤمّن عدالة التمثيل ومعالجة الأزمات المعيشية والاقتصادية، وعلى ابراز تفاؤله بالعهد الجديد.

ونقل عن الرئيس الحريري قوله عن الحكومة الجديدة، ان اللبنانيين أثبتوا بأنهم جاهزون للوفاق، بمن فيهم الرئيس نبيه بري الذي يظهر تباعا تعاونه ورغبته في جمع الارادات اللبنانية حول خطاب القسم الذي دعا أكثر من فريق الى اعتباره المنهج العام للحكومة المقبلة، وهذا ايذان بوجود توافق لبناني عام على حلّ المأزق العام للبلاد.

وأعرب سياسيون كثيرون بعد الاستشارات النيابية في ساحة النجمة، ان ما طرحه الجنرال الرئيس وما تلقفه السياسيون من ترحيب وتأييد، على وجود نيّات سياسية صافية، لتجاوز البلاد المطبّات والمآزق، الأمر الذي يساهم في تسريع التشكيلة الحكومية، وفي توزيع الحقائب. وفي المعطيات السياسية ان هناك توزيعا للحقائب يأخذ في الاعتبار فريق الرئيس عون، وايجاد صيغة متوازنة للنصف المسيحي من الحكومة، والقوات اللبنانية والنسبة المسيحية الوازنة في كتلة المستقبل والمرجعيات المسيحية التي لها كلمة خارج التصنيف الحزبي، وسط معلومات عن وجود مرجعيات دينية تريد ان يكون للطائفة كلمة، في تمثيل العاصمة.

أما في المقلب السلامي فيرى فريق من هؤلاء ان المشاركة الشيعية أصبحت محسومة بفاعلية بعد تسمية الرئيس بري، من قبل حزب الله صاحب المرجعية الأساسية الأمر الذي يسهّل على تظهير صيغة مقبولة من الجميع على هذه الصعد جميعا.

ويقول هؤلاء ان أجواء التسهيل تتفوّق على أجواء التعقيد، مما يعني ان موضوع التأليف هو مسألة أيام.

وفي المقابل نقل عن الرئيس بري قوله أمام زواره، ارتياحه خلال لقائه رئيس الجمهورية، ووصفه ب الودّي والاحترام والتقدير، وقوله انه لمس عند الرئيس عون، مناخا ايجابيا في مناقشة ملفات ملحّة ومتراكمة. خصوصا على صعيد البيئة والفساد والنفايات.

إلاّ أن هؤلاء استدركوا بالاعراب عن مخاوف تساورهم من جراء التوجه نحو التوصل الى ايجاد قانون للانتخابات قبل انتهاء ولاية المجلس، وهذا وارد أيضا عند الرئيس المكلف.

ويُروى ان الرئيس بري مسلّم بكل المحاذير، وان الأهم عنده هو استعجال التأليف، وهذا ما جعله يوعز الى الدوائر المعنية، بتّ هذه الأمور سريعا.

يروي السفير اللبناني السابق في واشنطن على عهد الرئيس أمين الجميّل حكايات عن علاقاته ب الجنرال عون، الذي أصبح الآن في الموقع الأول في البلاد، والذي كان يتردد عليه أخيرا انه كان صاحب علاقات مع عدد من الدول في مقدمتها المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي.

ويقول ان الجنرال كان يتفهم الحرص على العلائق مع دول اقليمية وخصوصا ايران، وانه يتفهم الصراعات العربية والاسلامية في سبيل الحفاظ على وحدة لبنان وأمنه واستقراره وازدهاره.

ويعتبر السفير عبدالله بوحبيب انتخاب الجنرال رئيسا للجمهورية متزامنا مع الاتفاق في مجلس الأمن الدولي، على أمين عام جديد للأمم المتحدة، وفرصة لتنظيم علاقات لبنان مع عدد من المؤسسات الدولية، ويترافق مع انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة.

ويضيف بأن هذا الانتخاب يتزامن مع مشاعر اللبنانيين في الأميركيتين والمتحدرين من أصل لبناني، ويساعد الجميع من اللبنانيين، على تعميق جذورهم في مرحلة الحرب على الارهاب الذي يهدّد لبنان واستقراره وسيادته على أرضه.

ويرى السفير السابق، ان المشاكل التي تتربص بلبنان كثيرة، ومنها ما يؤجل، بعد حرب ١٩٧٥ الشراكة الحقيقية في الحكم لأنها مفتاح حلّ كل المشاكل الأخرى، وأبرزها تقوية القوى العسكرية والأمنية والقضايا الاجتماعية وفي مقدمتها الكهرباء والمياه وتنظيم السير الذي في وضعه الحالي، يعطي انطباعا سلبيا لزوار لبنان وتحييده عن الصراعات الاقليمية.

ويعطي انطباعا شخصيا، مفاده ان السفير البعيد عن لبنان والموجود فيه بعد استقراره فيه انه لاعب ماهر في تعزيز دوره كبلد مستقل في منطقة تعيش في بحر من الاضطرابات الأمنية والسياسية.

ويخلص الى القول ان وجود جنرال في رئاسة البلد، يعزز من سلطته على التحكّم بمعظم التيارات الاقليمية العاصفة في هذا البلد الباحث عن الاستقرار.

قيل كلام كثير في الانتخابات، وأبرزها انه صناعة لبنانية. ولتوضيح المسار لا بد من العودة الى المرحلة التي سبقت الأزمات الاجتماعية ومنها الحقبة الانتقالية.

ولتوضيح المسار لا بد من الرجوع الى المرحلة التي سبقت التوقف عند حدثين متزامنين حصلا خلال صيف ٢٠١٥.

الحدث الأول اعلان النيّات بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية، وهو حدث لبناني. والحدث الثاني هو ترشيح كتلة المستقبل وبعدها أمل والحزب الاشتراكي وأطراف السلطة الآخرون. هذا التطور يماثل الاتفاق على ترؤس الرئيس تمام سلام للحكومة، كما يقول شربل نحاس، ورضيت به بعض أطراف ٨ آذار، لكونه يشكّل حدّا من الخسائر، فيما كان الصراع في سوريا يميل لمصلحة المحور السعودي – التركي، وتجسيدا للأوضاع، عشية انتهاء الصراع اللبناني وتعذر بروز تطورات قادت لاحقا الى ترشح العماد عون للرئاسة الأولى في البلاد، لأن انتخابات كهذه لا تحصل بصورة أمنية وسياسية قبلت بها معظم الأطراف.

وفي الخلاصة ان انعطافات كهذه لا تحصل الأنباء على قرارات أمنية وسياسية خارجية من الولايات المتحدة وسواها. لكن الطبّاخين لم ينتهوا الى ما ولد اقتراحهم مع تطوراتها الى التخبّط في مرحلة انتقالية والى تقلص الموارد المالية مما أوهن الجميع في الضعف والتخلّف.

وقد ولد هذا الانعطاف ولا سيما بسبب التركيبة الفوقية في السلطة الى احراج ورقة اعلان النيّات بين الرئيس عون والدكتور سمير جعجع.

وما أظهرته جلسة الانتخابات الرئاسية تحت أعين اللبنانيين، ومعظم السفراء، يثبت ان التنافس الداخلي بين أطراف السلطة المخضرمين والطارئين، حتى ضمن الكتلة السياسية الواحدة، اتخذت هذه الحدّة شكلا استفزازيا واقعا في صفوف المواطنين عموما وبالمواطنات تحديدا، يكفي وحده لتظهير عدم جدارة هذه المجموعة، اضافة الى عدم شرعيتها المستقبلية.

إلاّ أن الطبّاخين لم يستطيعوا تبيان التركيبة السلطوية، ولا سيما التيار والقوات فكانت ورقة اعلان النيّات، خطوة أولى على الطريق الى الانجاز.

لقد قيل الكثير في نظر بعض المراقبين على ان الانتخابات كانت صناعة لبنانية على رغم ان المطابخ الخارجية أشرفت على انضاج الصفقة، لتدعو معظم الكتل السياسية.

إلاّ أن بعض فصول الأزمة أكدت ان هناك حاجة لدى فريق من السياسيين الى هذا التفسير بعد عامين ونصف عام على الفراغ في سدّة الرئاسة الأولى.