من المفترض أن تنال الحكومة الثقة المطلوبة ولَو “بالحلاش”، الّا اذا طرأ ما ليس في الحسبان. لكن في المبدأ هنالك قرار على مستوى عالٍ بتأمين الطرق المؤدية الى مجلس النواب، لتبدأ بعدها مرحلة اختبار الحكومة.
لكنّ القرار الكبير بفتح الطرق أمام جلسة الثقة لا يعني أبداً انّ الطرق مفتوحة امام الحكومة، لا بل على العكس. فهنالك الكثير من الحسابات الخاطئة، خصوصاً لدى اهل السلطة مع انّ الوضع على مستوى الفريق المعارض ليس أفضل حالاً. فالرهان “الوَهم” الذي ما يزال قائماً عند الطبقة السياسية الحاكمة بأنّ الظروف باتت مهيّأة لتجاوز الانتفاضة الشعبية، هو رهان عقيم صَدمته في الأمس عظة مطران بيروت للموارنة في القداس الإحتفالي في عيد مار مارون.
في الواقع يصحّ القول تماماً انّ العِظة الجريئة والواضحة ليست مسبوقة، خصوصاً أنها حصلت في حضور رئيس الجمهورية ورئيسي المجلس النيابي والحكومة، والوزراء والنواب والرسميين. كذلك، فإنّ المطران عبد الساتر، والذي حَظي بتزكية فاتيكانية لتعيينه على رأس أبرشية بيروت، معروف عنه مَيله وتأييده التيار العوني سابقاً.
وجاءت عظته لتؤكد أنّ المسألة أبعد من حراك شعبي أو انتفاضة. إنه مناخ جديد يلفح الشارع اللبناني وهو أخذه الى مكان آخر. كانت الصدمة واضحة على وجوه المسؤولين الكبار، وضاعَف من وَقعها التصفيق الطويل في القداس من الفعاليّات الرسمية المارونية.
وما بعد الثقة الضعيفة التي من المفترض أن تنالها الحكومة، سيبدأ المشوار الصعب لمواجهة أوّل ثلاث تحديات هي بالتراتبية كالآتي:
1 – تسديد استحقاقات لبنان الخارجية التي تستحق الشهر المقبل.
من الواضح انّ نزاعاً دار في الكواليس وتمحور بين وجهتي نظر: الأولى تؤيّد تسديد لبنان التزاماته المالية لكي لا ينعكس ذلك سلباً على صدقيته الدولية، وبالتالي صعوبة إيجاد مصادر تمويل دولية بعد اليوم. والثانية تدعو الى البدء بمفاوضات عنوانها “جدولة الديون” على غرار ما حصل مع عشرات الدول عند عجزها عن سداد مستحقاتها. والمفارقة انّ بعض من يؤيّد هذا التوجّه كان رافضاً حتى لطلب جدولة مستحقاته. إلّا أن الإتجاه عاد ليميل الى إعادة الجدولة.
2 – الإصلاحات التي يطلبها الأوروبيون وفي طليعتهم باريس بدءاً من ملف الكهرباء. ووفق المواقف الاولية التي أعلنها وزير الطاقة وما تضمّنه أيضاً البيان الوزاري، فإنّ المسؤولين الاوروبيين يبدون شكوكاً كبيرة في امكانية إنجاز الاصلاحات المطلوبة في قطاع الكهرباء.
لكنّ أوساطاً ديبلوماسية فرنسية تفضّل عدم استباق الأمور. هي تعتقد انّ سلوك الرئيس حسان دياب سيتبدّل بعد نيله الثقة. وبالتالي، فإنّ ما طرحه وزير الطاقة حيال تعيين أعضاء الهيئة الناظمة ولكن بعد تعديل مهماتها وفق قانون جديد يصدر، وكذلك حيال التمسّك بالخطة السابقة والتي تؤدي في نهاية الامر الى استئجار البواخر، سيصطدم بمعارضة فعلية داخل مجلس الوزراء برئاسة دياب.
واعتقاد هذه الاوساط الديبلوماسية الفرنسية لا بد ان يكون مُرتكزاً على إيحاءات صادرة عن رئيس الحكومة، وهو ما يعني نزاعاً منتظراً داخل مجلس الوزراء وقد يمتد الى خارجه.
وبالتأكيد، فإنّ الخلاف الذي سيتمحور حول ملف الكهرباء لن يساعد مفاوضات جدولة الدين، والتي ستسير في موازاة نقاش الكهرباء.
3 – والتحدي الثالث هو سياسي ويتعلق بطريقة العمل واتخاذ الخطوات المطلوبة لتضييق الفجوة الهائلة التي تفصل عن الحراك في الشارع، أضف الى ذلك التعاطي الدولي مع لبنان، بدءاً من الموقف الاميركي الذي بدأت ملامحه السلبية تتبلور، وهو ما يعني عدم التعويل على مساعدات مالية واقتصادية يبدو لبنان بأمسّ الحاجة إليها. لا بل على العكس، هنالك عقوبات جديدة وتحت عناوين بعضها قديم وبعضها الآخر يبدو جديداً.
في المقابل لا تبدو الصورة أفضل حالاً عند فريق المعارضة.
وما حُكي عن محاولات لإعادة إحياء تحالف 14 آذار لا يبدو واقعياً أو منطقياً. فلا سعد الحريري في وارد المواجهة مع “حزب الله”، ولا وليد جنبلاط قادر على الانطلاق في سلوك هجومي وهو الذي يدرك صعوبة موقعه ودقّة الوضع في الجبل، ولا سمير جعجع يملك ترف الرهان على مشروع جديد – قديم لم يعد يملك مقوّماته الداخلية والخارجية في ظل مواجهات عسكرية مفتوحة بين إيران والسعودية في أكثر من ساحة.
هنالك بالتأكيد تقاطعات سياسية تسمح بالالتقاء، ولكن لا تعطي الركيزة المطلوبة لإعادة إحياء فريق 14 آذار، ولا حتى جبهة سياسية بالمعنى الفعلي والحقيقي للكلمة.
لذلك مثلاً جَرت مساعٍ كثيرة في الكواليس لتأمين حصول اتصال هاتفي مباشر على الاقل بين الحريري وجعجع. ولكنها باءت بالفشل. وحتى مشاركة “القوات اللبنانية” في احتفال ذكرى 14 شباط جاءت حَذرة.
صحيح أنّ جعجع سيعتذر متذرّعاً بالاعتبارات الامنية، إلّا أنّ الوفد الذي سيمثّل “القوات” سيكون على أيّ مستوى؟ والأهم هل ستتضمن كلمة الحريري انتقاداً لجعجع؟ وبأي مستوى سيكون الانتقاد؟
ولذلك، فإنّ الكلام حول انّ زيارة الوزير السابق ملحم الرياشي الى السعودية، موفداً من جعجع، كانت لطلب إعادة إحياء فريق 14 آذار لم يكن دقيقاً ولا منطقياً. الأرجح أنّ هدف إرسال الرياشي كان لاستمزاج رأي السعودية حول الحكومة والموقف السعودي الفعلي منها، وما اذا كانت الرياض ومعها عواصم الخليج في وارد الافراج عن مساعدات مالية للبنان.
والأرجح أيضاً أنّ السعودية أبلغت الى جعجع عدم رضاها عن حكومة حسان دياب، وبالتالي لا مساعدات مالية سعودية وخليجية للبنان في المرحلة المقبلة، ويمكن استنتاج ذلك من مواقف “القوات اللبنانية” بعد الزيارة.
كذلك، فإنّ الرئيس سعد الحريري الذي سيدشّن معركة “الثأر” مع خطابه في ذكرى 14 شباط، لم ينجح في زيارة السعودية للفوز بدعم علني أو حتى صوَري. هو يريد حاضنة خليجية في ظل وضعه المالي الصعب والتشتّت الذي يشهده الشارع السني. أضف الى ذلك انّ المأخذ الاساسي للسعودية تجاهه هو التزامه الكامل يومها بالتسوية الرئاسة وأخذها كلياً على عاتقه.
أمّا وليد جنبلاط الذي يعاني على مستوى التوريث السياسي، اضافة الى وضع الشارع الدرزي، فهو لم ينس ولن ينسى على الارجح إهمال الحريري له خلال فترة “غرامه” بالوزير جبران باسيل، اضافة الى انه لا يأمن لعلاقة تحالفية كاملة مع سمير جعجع، والعكس صحيح.
في الخلاصة، صحيح انّ القوى السياسية ستنتظم في مجموعتين سياسيتين متواجهتين، لكنّ حروباً كثيرة، وربما أكثر عنفاً، ستدور بصمت داخل المجموعة الواحدة، والأهم أنّ الشارع الذي أضحى في مكان آخر يستعد لتحفيز تحركاته، فيما الحكومة لا يبدو أنها قادرة على تجاوز التحديات الخطيرة، والأهم انها غير قادرة على إقناع العواصم الغربية بمَد يد المساعدة المطلوبة.